|
|
”أرني (يا الله) بلد الحُب لأتكلَّم عنه كما يستطيع ضَعفي.
أَفْرِخْ فيَّ يا رب نعمتك برحمتك لأتكلَّم عنها.
ألهِب قلوب مُحبيك فيخرجون في طلبها“
(الشيخ الروحاني)
«إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَ ذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا.
وَلكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ،
أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ.
إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ.
لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ»
(2كو 5: 17-21).
في بداية رحلتك معي عزيزي القارئ، أودُّ أن نتعرَّف سويًّا على مجموعة من المبادئ الروحية الهامة ... ولتعتبرها إرشادات الطريق في مسيرتك الروحيَّة ... هيَّا سويًّا لنخطو خطوتنا الأولى.
أولًا: ما هي الحياة الروحية ... بلد الحب:
الحياة الروحية هي الإطار الذي يجمع ثلاثة محاور هامة: النعمة وعملها، الإنسان بتوازنه، وأخيرًا الكنيسة وأسرارها وصولًا إلى بلد الحب.
* النعمة وعملها ...
عمل النعمة، هو عمل دائم ومستمر ولا ينقطع، ويظهر عمل النعمة كُلَّما كانت حياة الإنسان مملوءة ثمرًا ... وهناك قاعدة روحية هامة وهي أن الله لا يُريد من الإنسان سوى إرادته لتعمل نعمته فيه. وعمل النعمة بدوره يقود الإنسان لاختبار هام في الحياة الروحية وهو معيَّة المسيح.
تأمَّل معي يا عزيزي ترتيلة داود النبي: «أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي» (مز 23: 4)، فعبارة «أنتَ معي» تعكس شعورًا داخليًّا وإحساسًا حقيقيًّا بوجود الله وعمل نعمته ... بل إن هذا الشعور هو قمة عمل النعمة.
* الإنسان بتوازنه:
خلق الله الإنسان وجعله: عاقلًا ... عاملًا ... عابدًا ...
ولكن تذكَّر يا صديقي أن التوازن هو الركيزة الأساسية لنجاح هذه المنظومة.
أتسألني كيف يكون هذا التوازن؟ ... أُجيبك أن التوازن في حياة الإنسان مُرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشِّبع الروحي، فالعقل يتغذَّى بأعمال القراءة والمعرفة، والروح تسمو بالعمل الروحي والشِّبع الشخصي بالمسيح.
ولكي يتحقَّق هذا الشِّبع الروحي لا بُدَّ أن تكون للحياة الروحية قوانين تُنظِّمها، فالحياة الروحية شيء مُحدَّد، ولها شكل ونمو ومراحل وتدرُّج.
بقي لنا المحور الثالث، ألا وهو:
* الكنيسة بأسرارها:
وهذه الأسرار توضَع في ثلاث مجموعات رئيسية:
- أسرار لا تُمَارَس إلَّا مرَّة واحدة: سِرّ المعمودية والميرون.
- أسرار دائمة التكرار: سِرّ الاعتراف والتناول ومسحة المرضى.
- أسرار قد تُمَارَس وقد لا تُمَارَس: سِرّ الزيجة والكهنوت.
لك أن تعتبر أن الأسرار الكنسيَّة هي بمثابة حلقة الربط بين عمل النعمة والتوازن الإنساني ... والتي بدورها تقود إلى العُمق في الحياة الروحية ...
أتسألني الآن: كيف أنمو في حياتي الروحيَّة؟
أودُّ أن تَعي جيدًا أن النمو الروحي له عدة قوانين تنظمه.
وتضمن تدرُّجه ...
إن إحدى المُشكلات الرئيسية التي تواجه الإنسان المسيحي،
هي عدم الاستمرار ...
قد تبدأ نظامًا روحيًّا بحماس شديد، ولكن بعد فترة قصيرة يتسلَّل الفتور إلى قلبك!! أمَّا القانون الروحي الذي يضمن الاستمرار هو: ”قليلٌ دائم خيرٌ من كثير مُتقطِّع“. فالقليل الدائم هو الذي يجعل حياتنا مستمرة، فالمسيح لا يطلب منَّا الكَمّ Quantity بل يطلب الكيف Quality.
نعم ... إن المسيح يُريد منك الاستمرارية حتى ولو كانت آية واحدة أو مزمور، فالاستمرار هو الذي يُعطي انطباعًا أنك شخص ذو قلب مُستعد لسُكنى المسيح فيه.
أتذكُر المرأة التي أعطت الفلسَينْ؟ ... قال عنها السيد المسيح: انظروا كيف أعطت؟ بمعنى أنه نظر إلى الكيف وليس الكم (لو 21: 1-4).
فعلى الأقل في كل يوم، اهتم أن تكون هناك فقرة أو آية في الإنجيل تقوم بقراءتها مع وقفة صلاة، وليكن هذا أقل شيء ... لكن كُنْ دائم التطلُّع أيضًا نحو النمو والتدرُّج في حياتك الروحية.
هذا عن الاستمرارية والتدرُّج، أمَّا عن الاعتدال يقول الآباء الذين اختبروا الحياة الروحية: ”الطريق الوسطى خلَّصت كثيرين“، وإذا أردنا أن نُعرِّف كلمة ”الاعتدال“ يمكننا القول: إنَّه عدم التطرُّف يمينًا أو شمالًا، أو عدم المُبالغة، أو هو التوازن.
أيتبادر إلى ذهنك كيف أحقِّق الاعتدال في حياتي الروحية؟
أُجيبك: يا عزيزي إن للحياة الروحية ثلاثة أعمدة رئيسية وهي:
”أبٌ روحي ... قانون روحي ... وسط روحي ...“.
فَمِنَ الخطأ أن يظن الإنسان أنه يستطيع أن يقود نفسه بنفسه، مهما كانت مكانته أو قامته الروحية كبيرة، فالكنيسة قائمة على الخضوع.
بدءًا من البابا البطريرك والآباء المطارنة والأساقفة والآباء الكهنة والشمامسة والشعب.
الجميع تحت خضوع، فليحذر كل مَنْ يظن في نفسه أنه أصبح مُدرِكًا لكل شيءٍ، ويدرك كل الأمور.
الخضوع يا صديقي هو صمام الأمان في الحياة الروحية. إنه الضمان الوحيد، أن يحيا الإنسان تلميذًا في مدرسة التواضع.
بَقيَ لنا أن نتأمَّل سويًّا في الحياة الروحية والتطبيق العملي.
هناك ثلاث تطبيقات، تضعنا في دائرة الحياة الروحية عمليًّا ...
أولًا: مداومة الصلاة القلبية بحُبٍّ:
كلمة مُداومة تعني الاستمرار، وكما يقول الكتاب: «وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا مَثَلًا فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ» (لو 18: 1) ... فصلواتنا هي العلاقة الشخصية التي تربطنا بالله ... وأجمل تعريف للصلاة قاله معلِّمنا داود النبي: «جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ» (مز 16: 8).
الصلاة الحقيقية يا عزيزي هي الصلاة القلبية المملوءة حبًّا ... فلا يُقدِّس أوقاتنا وأعمارنا إلَّا الصلاة، ولتسأل نفسك دومًا:
ما هي قامتك الروحية؟
وما هي صلواتك؟
وما هو قانونك مع أب اعترافك؟
ففي كل مرة ترفع قلبك إلى الله للصلاة، تزداد اشتياقًا وكأنك بصلاتك ترتفع درجة نحو السماء.
ثانيًا: ممارسة الأسرار الكنسية بوعي:
إن أكثر الأسرار الكنسية التي نُمارسها باستمرار: سِرُّ الاعتراف وسِرُّ التناول. وهذه الأسرار ما هي إلَّا قنوات للنعمة، والكتاب يُذكِّرنا في المزمور الأول: «فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ» (مز 1: 3).
والمقصود بـــــ”مجاري المياه“ هي قنوات النعمة، فجلسة الاعتراف، ما هي إلَّا قناة للنعمة ... لذا يجب أن أكون بوعي فيها. أذكر خطيتي بقلب تائب أمام الله في حضور الأب الكاهن، وأُقيم عهدًا جديدًا في حياتي الروحية مع الله ولسان حالي يقول: «تعهُّدات فمي باركها يا رب» (مز 119).
وقد يقول أحدٌ: إنني أحضر القداس، وأُمارِس سِرَّ الاعتراف، لكنني لا أستفيد شيئًا!
السبب في ذلك يا صديقي، هو غياب الوعي القلبي لديك، ويمكن تشبيه ذلك بشخصٍ يتكلَّم مع آخَر وهذا الآخر غير مُنتبِه إلى حديثه، لأنه مشغول بقراءة شيء أمامه مثلًا ... فكيف له أن يدرك قول ومشاعر مُحدِّثه؟! وعلى النقيض هناك آخر يُنصِت ويستمع بمنتهى التركيز، وهذا الإنصات يسمَّى إنصات تفاعلي، فيُدرك الرسالة الموجَّهة إليه بل ويتفاعل معها.
وعلى هذا الأساس اسأل نفسك: كيف تحضر القداس الإلهي؟ هل عقلك مشغول بأمور أخرى، أو يجذبه العالم باهتماماته ومشاكله وبالتالي يكون جسدك في القداس، أمَّا عقلك وقلبك في مكان آخر؟!
ثالثًا: معايشة كلمة الكتاب بانتظام:
أودُّ أن أطرح عليك هنا سؤالًا: هل تقرأ الإنجيل بانتظام يوميًّا؟ هل تدرس الكتاب المقدَّس كل يوم؟ أمْ أنك تقرأ وتدرس وتتأمَّل؟
فقراءة الكتاب المقدَّس درجة روحية، يعلوها دراسة كلمة الله ... أمَّا ما هو أسمَى فهو الدراسة والتأمل والحياة بكلمة الله بشكل عملي.
إذا لم يقُم الإنسان بكل هذا، كيف يقول عن نفسه إنه يحيا بالإنجيل؟! وكيف يكون الإنجيل بالنسبة له «روح وحياة»؟!
دعنا نتأمَّل سويًّا في هذه القصة لتُدرِك مفهوم الحياة بالإنجيل بشكل أعمق ...
أُصيب رجلٌ في أحد أحياء مدينة تكساس بأمريكا في انفجار، فَقَدَ فيه يَدَيه، كما أُصيب وجهه بجراحات خطيرة. فَقَدَ الرجل عينيه، فلم يعد قادرًا على القراءة. ووسط مرارة نفسه اشتاق أن يقرأ الكتاب المقدَّس، فبدأ يسأل: ”كيف يمكنني قراءة الكتاب المقدَّس، وقد فقدتُ عيني ويدَيَّ؟!“ قيل له: ”توجد سيدة في إنجلترا تستمتع بقراءة الكتاب المقدَّس بواسطة شفتيها، إذ تستخدمها بدلًا من الأصابع لتقرأ الكتاب المقدَّس بطريقة برايل Braille method بالحروف البارزة“.
أرسل إلى الهيئة المختصَّة لكي تُرسِل له الكتاب المقدَّس البارز ليتعلَّم القراءة بشفتيه. لكن قبل أن يصل إليه الكتاب المقدَّس اكتشف أن أعصاب شفتيه قد تحطَّمت تمامًا، وإذ وصله الكتاب المقدَّس المكتوب بحروف بارزة بدأ يتعلَّم القراءة بلمس الكتابة بلسانه! وكان يجد عذوبة في قراءته ... وفي تعليق له يقول: ”لقد قرأت الكتاب المقدَّس أربع مرَّات ... وقرأت بعض الأسفار مرَّات ومرَّات“. وهكذا ... تحوَّلت ضيقة هذا الإنسان إلى خبرة التمتُّع بكلمة الله التي تهب النفس عذوبة وتعزية.
إن هذا الإنسان يديننا ... لأنه تعلَّم أن يقرأ الكتاب المقدَّس بلسانه بعد أن فقد يديه وعينيه وأعصاب شفتيه.
أي عذر لنا؟! نتحجَّج بحجج واهية ... إنه لا يوجد وقت! ويشغلنا إبليس بالعالم واهتماماته ومسئولياته ... فما أكثر الذين يعتذرون عن عدم القراءة في الكتاب المقدَّس بأنه ليس لديهم وقت! بينما يجدون وقتًا للتسلية والمقابلات العديدة. والحقيقة أن ليس لديهم رغبة!!
يا حبيبي ومخلِّصي ... هَبْ لي أن أختبر عذوبة كلمتك لأقرأها بكل كياني! لأختبر قوَّة كلمتك فأحيا بها وأتمتَّع بمواعيدك ... بها أنطلق إلى الأحضان الأبوية الإلهية ... أنعم بالمجد الأبدي في بلد الحب.