دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد


إعلان المسيح لرسالته الخلاصية
(لو 4: 16-22)

بالرغم من أن تعاليم المسيح ومعجزاته أثارت تمجيد أهل المجامع في الجليل، إلاَّ أن خدمته في الناصرة بنوع استثنائي حزينة جداً تكشف عن رفض أهل الناصرة لتعليمه. وقد تعرَّض لها القديس لوقا هنا بتطويل أكثر من تقليد القديس مرقس، ولكن الملاحظ أنه ابتدأ يقدِّم تعليم المسيح في الناصرة مباشرة بعد رجوعه من الأُردن ممتلئاً من الروح القدس. فبالرغم من أن القديس لوقا كان هدفه الأساسي في ذلك هو ذكر حادثة قراءة سفر إشعياء (1:61 إلخ) التي تُحسب وكأنها خطاب العرش الذي يليق جداً أن يبتدئ به المسيح تعليمه، إلاَّ أن مجمع الناصرة الذي قرأ فيه هذا الفصل لم يستطع أن يوفِّق بين جلال وهيبة المسيَّا وهو يفتتح رسالته الخلاصية بنبوَّة إشعياء النبي: «روح الرب عليَّ لأنه مسحني ...»، وبين كونه معروفاً في وسطهم كنجَّار القرية ابن يوسف. فلم يستطيعوا أن يؤمنوا به، خاصة وأنه كان قد فعل سابقاً (وهذا لم يذكره القديس لوقا) آيات كثيرة في كفرناحوم قبل أن يأتي إلى الناصرة التي لم يعمل فيها أعمالاً معجزية بسبب عدم إيمانهم به.

وهنا نواجه أمراً جديداً في تقليد القديس لوقا، إذ بالرغم من أن حادثة دخول المسيح مجمع الناصرة والأثر المدهش الذي تملَّك على عقول أهل الناصرة من الحكمة والعلم اللذين كان يعلِّم بهما، فإن هذا الفصل أبرزه القديس مرقس في الأصحاح (1:6-6)، وأبرزه القديس متى في (53:13-58) بعد خدمة مديدة في كل الجليل. إلاَّ أننا نجد هنا أن القديس لوقا يضعه في مستهل خدمته عامة، متأثراً بقراءة المسيح لفصل إشعياء النبي: «روح الرب عليَّ لأنه مسحني ...». وطبعاً واضح أن القديس لوقا اختار قراءة المسيح لهذا الفصل بالذات لقوة وضعه كفاتحة لبروجرام أو برنامج خدمة المسيح. نفهم من هذا أن تقليد القديس لوقا كان يتبع خطة الاختيار لإبراز عمل المسيح في تناسق الموضوع أكثر منه بالنسبة لتسلسل الحادثة.

16:4 «وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ».

هنا يفتتح القديس لوقا خدمة المسيح في الناصرة، وهذا مشابهٌ لما جاء في إنجيل القديس مرقس (1:6 إلخ)، ولكن دون أن يلحظ العلماء أنه قد اعتمد على الألفاظ. أما نغمة المدخل لهذه الآية فهي ترمي لبعيد، وكأنها امتداد عالٍ لإرساليته: «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله» (يو 11:1) التي لمحها القديس يوحنا. فهو يكاد أن يكون هنا ما زال مُساقاً بالروح، ونسمع ذلك في الآية القادمة (18): «روح الرب عليَّ ... أرسلني ...». وهنا في الآية (43:4) لا يزال لذلك صدىً: «لأني لهذا قد أُرسلتُ»، وكأن المسيح أرسله الآب إلى العالم، وجاء إلى الناصرة أيضاً هنا على وجه الخصوص، إلى المدينة التي تربَّى فيها ليُعلِن من مجمعها عن إرساليته العظمى بمقتضى خطاب العرش الذي سبق إشعياء منذ سبعمائة عام وكتبه بإملاء الروح القدس، ليقرأه في هذا اليوم المشهود لتحقيق افتتاح العهد الجديد والإعلان عن مفردات عصر المسيَّا، عصر ملكوت الله لتجديد خلقة الإنسان.

«إلى الناصرة»: Nazar£ e„j

هنا قول القديس لوقا «حيث كان قد تربَّى» يوضِّح تقليداً غير مذكور في إنجيل القديس مرقس ولكنه مذكور في إنجيل القديس متى: «ولمَّا سمع يسوع أن يوحنا أُسلِم، انصرف إلى الجليل. وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم» (مت 4: 12و13). وهذا يوضِّح لنا في قصة القديس لوقا هنا أن المسيح عاش وخدم في كفرناحوم قبل أن يدخل الناصرة التي كان قد تربَّى فيها أولاً، لذلك كانت هناك غيرة شديدة بين أهل الناصرة التي لم يخدم فيها ولا عمل فيها آيات. وسيتضح لنا أن ذلك كان بسبب عدم إيمانهم به، حتى إخوته أيضاً. والمسيح نفسه يعلِّق على ما أضمره أهل الناصرة في قلوبهم ويكشفه علناً وكأنه يتكلَّم بلسانهم: «كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك.» (لو 23:4)

«حيث كان قد تربَّى»:

نقرأ عنها في إنجيل القديس لوقا أيضاً في بكور أيام حياته:

+ «ولمَّا أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب رجعوا إلى الجليل (من بيت لحم) إلى مدينتهم الناصرة. وكان الصبي ينمو ويتقوَّى بالروح ممتلئاً حكمة، وكانت نعمة الله عليه.» (لو 2: 39و40)

«ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ»:

يُفهم من هذا ومن الآية السابقة (15:4): «وكان يعلِّم في مجامعهم ممجَّداً من الجميع»، أن المسيح كان قد اعتاد أن يذهب إلى المجمع في أية مدينة يوجد فيها، وكان له الأولوية دائماً أن يقوم ويقرأ ويعلِّم، وكان تعليمه ممجَّداً من الجميع. هذه الصورة المشرقة لمستوى تواجد الرب في المجامع تُعطي فكرة أن المسيح كان خطيب المجامع بلا نزاع، وكأنه لم يدخل مجمعاً إلاَّ وكان هو القارئ والمعلِّم بل وصانع المعجزات. يؤكِّد هذا قول القديس لوقا: «وكان يعلِّم في مجامعهم ممجَّداً من الجميع». وأيضاً في ختام قراءته لإشعياء - حتى في مجمع الناصرة - يسجِّل القديس لوقا عنهم قائلاً: «وكان الجميع يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه ...» (لو 22:4)

ويُلاحَظ أن القراءة كانت تحتِّم على قارئ السِّفْر أن يقف على مسطَّح أعلى من الأرض ليسمعه الجميع. أمَّا التعليم فكان يُمارسه المسيح وهو جالس بنوع خاص وممتاز: «كل يوم كنت أجلس معكم أعلِّم في الهيكل ولم تمسكوني» (مت 55:26)، «أنا كلَّمتُ العالم علانية، أنا علَّمت كل حين في المجامع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً، وفي الخفاء لم أتكلَّم بشيء.» (يو 20:18)

ومن أبحاث العلماء يقولون إن الفصل الذي أورده القديس لوقا عن تعليم المسيح في المجمع يُحسب أقدم إشارة عن خدمة المجمع (السيناجوج). والإشارة التي تُشبهها جاءت في سفر الأعمال - وأيضاً للقديس لوقا - ولكن يظهر فيها أن القديس بولس وعظ وهو واقفٌ: «وأتوا إلى أنطاكية بيسيدية ودخلوا المجمع يوم السبت وجلسوا، وبعد قراءة الناموس والأنبياء، أرسل إليهم رؤساء المجمع قائلين: أيها الرجال الإخوة إن كانت عندكم كلمة وعظ للشعب فقولوا، فقام بولس وأشار بيده وقال ...» (أع 13: 14-16)

ويرسم العالِم مارشال( ) طريقة العبادة والخدمة والقراءة والوعظ: عند بدء دخول المجمع والتئام العابدين يصير اعتراف عام بالإيمان اليهودي كما هو في الشمّا (تث 4:6-9، 13:11-21). بعدها تبدأ صلوات التفلاّه tephillah وشيموني عِسْره shemoneh esreh(أي البركات الثماني عشرة). وهنا يأتي مركز العبادة وهي قراءة الأسفار، فيُقرأ فصلٌ من الأسفار الخمسة بمقتضى نظام القراءات المحددة، وذلك بواسطة أعضاء متتابعين من الجماعة بالدور مع الترجمة باللغة الأرامية. ثم تأتي قراءة من الأنبياء وذلك أيضاً بناءً على نظام قراءات محدَّد، ولكن ربما كان هناك في القرن الأول المسيحي نوع من الحرية في اختيار النبوَّات. وبعد قراءة النبوات تُقام صلاة وبعدها تأتي العظة، فإذا كان من الموجودين شخصية مرموقة يُطلب منها الوعظ كما ذكرنا في (أع 13: 14-16). وبعد العظة تأتي صلاة ”القداس Qaddish“ وكان يُعيَّن الأشخاص الذين سيقومون بالقراءة قبل بدء الخدمة.

17:4 «فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ».

«فدُفع إليه»: ™pedÒqh

وهي تعني هنا: ”ودُفِعَ إليه بالإضافة“، حيث المعنى أنه أُعطي أولاً التوراة وبعدها دُفع إليه أيضاً الأنبياء. والأرجح أنه لم يقرأ الأنبياء فقط، لأنه يقول بعد ذلك فطوى السفر bibl…on، والمعنى هنا أنه كان هو الدَّرْج scroll. والمفهوم جيداً من مجرى الآية أن المسيح فتح الدَّرْج الذي فيه سفر إشعياء دون سابق إعداد، لا من الخادم الذي عليه ترتيب القراءة، ولا من المسيح. ولكن طبعاً كان ذلك من تدبير الروح القدس، كما يقول العالِم ولهوزن( ).

وهذا يوضِّح أن المسيح نفسه لمَّا فتح السفر انتبه إذ «وَجَدَ الموضع الذي كان مكتوباً فيه»، الذي قرأه دون سابق إعداد من الخادم، بل هو بإعداد سابق منذ الأزل قبل أن يوجد كتاب أو يولد إشعياء!!

18:4 «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ».

من الوهلة الأُولى لمنطوق إشعياء في هذه الآية نرى أنها رسالة طبيب سماوي. نسمع هذه النغمة من المسيح نفسه وهو يعلِّق على ما دار في قلوب أهل الناصرة المغتاظين، لأنه صنع هذا كله في كفرناحوم، أمَّا في مدينتهم الناصرة فلم يفعل شيئاً. فقال عن لسانهم وكأنه يردِّد صدى إشعياء: «على كل حال تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب اشفِ نفسك. كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم، فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك» (لو 23:4)، إنها لفتة بديعة من المسيح. وعلى كل حال، فالقديس لوقا وهو طبيب، كانت عيناه دائماً على الأشفية وقوة الشفاء التي كانت واضحة جداً في عمل المسيح. فنحن نسمع عنها في الأصحاح الخامس مركَّزة هكذا: «وفي أحد الأيام كان يعلِّم، وكان فرِّيسيُّون ومعلمون للناموس جالسين وهم قد أتوا من كل قرية من الجليل واليهودية وأُورشليم. وكانت قوة الرب لشفائهم!» (لو 17:5)

ولكن يلاحظ العلماء أن المقطع: «وأُرسل المنسحقين في الحرية» غير موجودة في الأصحاح (61) من سفر إشعياء الذي فتح عليه السفر ولكنه موجود في (إش 6:58) «... فك عُقَد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير»، وتُقرأ على السبعينية لكي تأتي مطابقة لما جاء في إنجيل القديس لوقا. وقد اختلفت آراء العلماء في هذه الإضافة، إذ يقول البعض إنها من وضع مسيحي متأخِّر، وآخرون مثل العالِم ك. بروت( ) يقول إن هذه الإضافة هي بسبب جمع النصَّين في قراءة واحدة في الليتورجية اليهودية، بينما العالِم ب. ريكه( ) يقول بكل جرأة إن المسيح نفسه أضافها بسلطان نبوَّته الخاصة.

وفي توضيح ملابسات هذه النبوَّة تاريخياً، نجد أن إشعياء النبي نفسه أخذ إلهاماً من الله ومُسح بالروح لكي يُعلِن للشعب المنسحق البائس في ذُلّ أَسْره، تحريرهم القادم من الأَسْر، واصفاً لهم المستقبل الذي تعيَّن لهم فيه أن تستعيد أمتهم عظمة ملوكية الله لهم.

ولكن بقراءة المسيح لهذه النبوَّة عينها وقف المسيح باعتباره أنه هو مسيَّا العهد وقد تمَّ فيه وعد النبوَّة القديم، بمعنى أنه تعيَّن ليكون هو رأس مملكة الله لشعبه، ليُجري حُكْمَه كطبيب يشفي ويحرر ويعصب القلوب المكسورة. والوصف الذي يبدأ به إشعياء أن روح الرب عليه وأن الله مسحه، هو وصف تنصيب الأنبياء والكهنة الذي تمَّ هنا بواسطة الروح القدس نفسه. والمناسبة شديدة المطابقة غاية الشدة بعد أن حلَّ الروح القدس على المسيح في الأُردن وصوت الآب من السماء نصَّب الابن للرسالة.

19:4 «وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ».

المعنى هنا أنها سنة قبول لدى الرب، السنة التي عيَّنها الله لتكون سنة قبول ونعمة لإظهار خلاص الله، وهنا بالتحديد إشارة إلى سنة اليوبيل المعروف أنها سنة تحرير كل العبيد المدعوين أولاداً ليهوه (لا 25)، والتي كانت أصلاً رمزاً لسنة الخلاص، هذه التي جاء المسيح يبشِّر بها، وكانت تحل كل خمسين سنة حيث تُترك فيها الحقول لتستريح من الخدمة، ويعود العاملون إلى بيوتهم وتُحرَّر الديون ويُفرَج عن العبيد. والمناسبة هنا بديعة، فالمسيح عائد إلى الناصرة وطنه: «وتقدِّسون السنة الخمسين وتُنادون بالعتق في الأرض لجميع سُكَّانها. تكون لكم يوبيلاً وتَرجعون كلٌّ إلى مُلكه وتعودون كلٌّ إلى عشيرته» (لا 10:25). وقد بحث العلماء في سنة اليوبيل أيام المسيح فكانت سنة 26-27م. فإذا علمنا أن العلماء تأكَّدوا من أن ميلاد المسيح كان سنة 4 قبل الميلاد، اتضح أن السنة التي وقف فيها المسيح في مجمع الناصرة ليُعلِن عن السنة المقبولة كان عمره 30 سنة، وكانت بدء خدمته بإعلان ملكوت الله أو بالحري عودة الله إلى تملُّك شعبه في شخص المسيح الرب.

ويُلاحَظ أن بعض المفسرين مثل كليمندس الإسكندري وأُوريجانوس وغيرهم اعتبروا أن هذه السنة المقبولة هي سنة خدمة المسيح، وبذا اعتقدوا أنها كانت سنة واحدة في الخدمة. ولكن من واقع إنجيل القديس يوحنا يتضح أن المسيح خدم ثلاث سنوات ونِصفاً. فهو يقصد بكلمة ”السنة“، الزمن أو الدهر الجديد.

20:4 «ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ».

واضح من كلمة «طوى السفر» أنه درج ملفوف، وسلَّمه للخادم المدعو (حازّان). وجلوس المسيح هنا يفيد أنه جلس في مكان ما ينبغي أن يكون فيه الواعظ: «كل يوم كنت أجلس معكم أُعلِّم في الهيكل ...» (مت 55:26)، وكانت هذه الحركة مملوءة وقاراً رفعت انتباه كل المجمع خاصة بالنسبة لفصل إشعياء النبوي والمسيَّاني الذي قرأه المسيح بصوت واثق، كمَنْ يتكلَّم ويشير إلى نفسه بوضوح.

حقـًّا إن هذا الذي نقرأه الآن في هذا الفصل هو ذو وقعٍ هائل على نفوسنا، فبشيء من الشفافية الروحية نرى ونسمع ابن الله الذي أتى وتجسَّد يقف أمامنا ليتلو نبوَّة هي مركز جميع النبوَّات، معلناً بها بداية مُلك الله مرَّة أخرى، لا على إسرائيل، بل على شعبه الكبير في المسكونة كلها، لبداية سنة يوبيل العالم كله، سنة تحرُّر الإنسان، كل إنسان، من كل عبودية كانت. عبودية الإنسان للإنسان، وعبودية الإنسان للشيطان والخطية والعالم والموت ليتحرر الإنسان من رباط الأرض كلها والعالم ليتأهَّل لمواطنة السماء والله. كان هذا هو يوم المسيح، يوم الإنسان الجديد، يوم الحرية الحقيقية: «إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو 36:8)، يوم التجديد العالمي، يوم ”الرينسانس“ الإلهي الذي فيه دخلت البشرية في مُلْك الله.

وما أسعده يوماً في تاريخ الإنسان! لا تزال عيون العالم شاخصة إليه وهو جالس على عرشه الإلهي!

21:4 «فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ».

«فابتدأ يقول»: ½rxato

اصطلاح آرامي، مثل: ”وفتح فمه ليقول“، مشيراً إلى مضمون ما قاله المسيح، وتفيد الانتقال من القراءة إلى الوعظ، وبعدها تبدأ العظة باختصار جاذب للأنظار والقلوب. وقد اختطف المسيح انتباه كل الحاضرين بصورة طاغية حينما قال: «اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم». فقد جمع الزمان السالف كله بناموسه وأنبيائه وخدمات هيكله ومجامعه ومعلِّميه ووعَّاظه، الذي كان كله يدور حول مجيء المسيَّا وظهور خلاص الله علانية ويراه كل بشر!!

«اليوم»: s»meron

كان الضغط الذي باشره المسيح في النُّطق بهذه الكلمة «اليوم» كفيلاً بأن يُشعر كل السامعين والقارئين في الأرض كلها أنه هنا انتهى زمان النبوَّات؛ بل وانتهى زمان الإنسان وبدأ يوم الله الأبدي، زمان الحياة. وقد دخل يوم المسيح هذا في زمن الخلود، سنة الرب المقبولة التي بدأت ولن تنتهي أبداً. لقد تحوَّل «اليوم» إلى الحاضر الذي لن تغرب له شمس أبداً، هو هو يوم الإسخاتولوجيا الذي فيه أيضاً سيظهر ابن الإنسان في مجده.

«قد تمَّ»: pepl»rwtai

هنا كلمة: «قد تمَّ» لا تفيد تكميل شيء زماني، بل استعلان كمال خطة الله الأزلية لتكشف ما وراء هذا الحاضر العريض الذي نعيشه. فحركة الزمان قد تُرجمت إلى عمل الله الذي هو فوق الزمان. فالحاضر الإلهي يمتد في هدوء لا يلحظه وعي الإنسان ليدخل في التكميل النهائي لتدبير الله. كان هذا بمثابة خطاب العرش الذي بدأ به المسيح خدمته في حواري وأزقة الجليل.

22:4 «وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟»

نحن هنا أمام قوم متقلِّبين أخذتهم المفاجأة بكلمات المسيح المملوءة سلطاناً وقوة ونعمة، مما أثار فيهم التعجُّب والنُّطق ضد مشيئتهم بالشهادة لقوة النعمة التي كان يتكلَّم بها المسيح. ولكن كانت الخلفية التي ملأت عقولهم أنهم يعرفون المسيح أنه ابن يوسف نجار القرية، بالإضافة إلى أنهم سمعوا عن خدمته الإعجازية في كفرناحوم والتي لم يمارس مثلها في الناصرة مع أنها وطنه. لذلك امتزج إحساسهم بنوع من الاستهانة بقيمة المستوى الروحي النبوي العالي الذي شدَّ انتباههم. ولكن هذا هو المسيح صخرة عثرة!! نجار! نَعَم، ابن نجار! نَعَم، إنسان لا منظر له! نَعَم، رجل أوجاع! نَعَم، مضروب ومذلول! نَعَم، له شكل العبد! نَعَم، ولكن حينما يتكلَّم: «لم يتكلَّم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» (يو 46:7)؛ وحينما يعمل فليس إنسان يستطيع أن يعمل عمله قط: يأمر الشياطين فتطيعه، ينتهر الهواء والبحر أنْ اخرس إبْكم فينصاع إلى الهدوء التام، يشفي كل مرض وكل سقم في الشعب بكلمة، يقيم الموتى من القبور، وهو هو النجَّار ابن يوسف. صُلب ومات وقُبر! نَعَم، ولكنه قام من بين الأموات في اليوم الثالث.

فإن أردتَ أن تؤمن به، فعندك البراهين والأسباب.

وإن أردتَ أن ترفضه، فعندك البراهين والأسباب.

لذلك كان جزاء الإيمان عظيماً!!

الأب متى المسكين