للأب متى المسكين كما كان العالم يتهيَّأ لميلاد المسيح منذ أن أخطأ الإنسان نحو الله؛ كذلك لا يزال كل إنسان في العالم مهيّأً ومعدّاً لقبول المسيح في كل مرَّة يخطئ لله. فالمسيح جاء ليُعدِّل مسار الإنسان نحو الله بصفة دائمة ومستمرة. فالإنسان دائماً يخطئ تجاهه، والمسيح موجود الآن ليُصحِّح الخطأ، ويُعيد للإنسان صحة العلاقة التي تشدُّه بالله، ويحقِّق له بالفعل إحساس التعديل، ويؤمِّن له الهدف النهائي ببرهان وجوده الإلهي داخل أعماق الشعور. ولكن بقدر ما كان العالم ينمو في الاستعداد لقبول ميلاد المسيح، كان ينمو أيضاً في عدم الاستعداد للإيمان، إذ كان العالم ولا يزال، فيه عناصر التحدِّي لله ممثـَّلة في رئيسه المهيمن على شهوات الإنسان وطموحه الذاتي، والذي يمدُّ عقل الإنسان بإغراءات التطلُّع إلى حرية وسلطان ووجود من دون الله وبعيداً عن وصاياه ونواميسه؛ وكذلك أيضاً كل إنسان في حدِّ ذاته مهما بلغ من الخضوع والإيمان بالله، لا تزال تنمو فيه مع الزمن وحركة العالم، عناصر مجرمة لنـزوات وطموح ذاتي وإغراءات التطلُّع نفسها إلى التحرُّر الخاطئ ووجود بخس بعيداً عن وصايا الله المقدَّسة!! غير أن ميلاد المسيح في العالم يقطع دائماً خط الرجعة على طغيان عبقرية الإنسان المنحرفة، إذ لا يزال يوجد مَنْ يُبكِّت العالم على انحرافه وطغيانه. وكذلك ميلاد الإنسان في المسيح، يقطع دائماً خط الرجعة على طغيان وعتوِّ شهوات الإنسان وطموحه الذاتي، ويذلِّل طبعه الوحشي، مبكِّتاً ضمير الإنسان بغير هوادة على كل قول وكل عمل لا يتلاءم وجدَّة الحياة التي أفاضها الروح القدس على إنسان الله. إن المسيح لم يولد في العالم ليوجد في العالم، لأنه ليس أصلاً من العالم، بل وُلِدَ للعالم ليوجد العالم فيه. فالمسيح لا يمكن أن نراه في العالم أو مع العالم، أي أننا عبثاً نحاول التعرُّف عليه أو الإحساس به أو الخضوع له أو مجرَّد الإيمان به ونحن نعيش في جو العالم وفكره ومسرَّاته وطموحه، أو ونحن نعايشه ونمالئه ونتودَّد له. ولكن عندما نخرج من جو العالم ونتحرَّر من فكره ومسرَّاته وطموحه، وفي اللحظة التي نضحِّي فيها بالتودُّد له أو ممالأته ونحن متجهون بأعماقنا لله، حينئذ نجد المسيح ونتعرَّف عليه ونحسُّه بقوَّة فائقة وبمواهب وعطايا غامرة تعوِّض لنا عن كل خسارة فرضها العالم علينا جزاء تحديه. وحينما يدخل الإنسان مجال المسيح، هنا يجد العالم الجديد الذي وُلِدَ له المسيح ليملك على كرسيه إلى الأبد، المعبَّر عنه بملكوت الله، عالم الإنسان المبرَّر والخاضع لله، عالم القديسين وأرواح الملائكة، عالم الكنيسة الحيَّة والجسد السرِّي والنور الأبدي! وكذلك أيضاً كل إنسان يؤمن بالمسيح ويعتمد له أي ينصبغ به، فإن المسيح لا يُستعلَن له مولوداً بعيداً عنه هناك هناك في بيت لحم أو حتى في بيت القلب، فهذا إن تخيَّله الإنسان فهو لن يكون جوهر الاستعلان الحق؛ بل هو استعلان التاريخ الذي هو صورة الحق. أما الاستعلان الجوهري لميلاد المسيح بالنسبة للإنسان، فإنما يتم على وجه التحقيق بميلاد الإنسان في المسيح لله! فنحن بواسطة الإيمان والانصباغ السرِّي الروحي بالمسيح، نأخذ سرَّ الميلاد الإلهي من الله، أو على حدِّ تعبير الكتاب: «أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين وُلدوا ليس من دمٍ، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله (يُولدون)» (يو 1: 13)!! إذن، فنحن مدعوون لرؤية ميلاد المسيح في ميلادنا نحن من الله، ميلاداً بسلطان إلهي لا يعتمد على قوة ذاتية من عندنا بأي نوع إلا بقوَّة الإيمان العامل بالمحبة، كما لا يتأثر بخطية ما موروثة في الجسد؛ بل يتعدَّى كل خطية بغسل دم المسيح الفائق في الرحمة واللطف والإشفاق على ضعف الإنسان!! لذلك كان من واقع الحال أن كل مَنْ يعيش ميلاده الجديد في المسيح، يعيش في رؤية بيت لحم بصورتها السمائية كما رآها الملائكة، فلا يهدأ ليل نهار من التسبيح بمجد الله في العُلا، والتعمُّق في سلام المسيح على الأرض، واستجلاء مسرَّة الله وسط أتعاب هذا الدهر!! ********************************** دير القديس أنبا مقار بتصريح سابق من الأب متى المسكين بالإعلان عن مشروع معونة الأيتام والفقراء (مشروع الملاك ميخائيل)، حيث يعول دير القديس أنبا مقار منذ عام 2000 مئات العائلات المُعدمة، ويمكن تقديم التقدمات في رقم الحساب الآتي: دير القديس أنبا مقار بنك كريدي أجريكول مصر ــ فرع النيل هيلتون |
|||
(1) عن كتاب: ”أعياد الظهور الإلهي“، الطبعة الثالثة 1992، ص 255،254. |