لقد شرح الآباء القديسون علاقة إشارات العهد القديم بالعذراء، واهتموا بكشف معانيها الرمزية العميقة. وقد تكلَّمنا في العدد السابق (نوفمبر 2007، ص 19) عن: سُلَّم يعقوب، والعُلَّيقة المشتعلة. ونستكمل في هذا العدد سرد بقية الإشارات التي وردت في العهد القديم والتي تشير وترمز إلى والدة الإله. الطلّ (أي الندى) على الجزَّة: يرى الآباء أن جزَّة جدعون ترمز لوالدة الإله، وأن الندى الذي ملأها يرمز لحلول الرب المتجسِّد فيها. أما عن قصة الجزَّة فهي كالآتي: «وقال جدعون لله: إن كنتَ تُخلِّص بيدي إسرائيل كما تكلَّمتَ، فها إني واضعٌ جَزَّة الصوف في البَيْدر، فإن كان طَلٌّ على الجزَّة وحدها وجفافٌ على الأرض كلها، عَلِمتُ أنك تُخلِّص بيدي إسرائيل كما تكلَّمتَ. وكان كذلك. فبكَّر في الغد وضغط الجزَّة وعَصَرَ طَلاًّ من الجزَّة ملء قصعة ماء. فقال جدعون لله: لا يَحْمَ غضبك عليَّ، فأتكلَّم هذه المرة فقط. أَمتحِنُ هذه المرة فقط بالجزَّة. فليكن جفافٌ في الجزَّة وحدها، وعلى كل الأرض ليكن طَلٌّ. ففعل الله كذلك في تلك الليلة. فكان جفافٌ في الجزَّة وحدها، وعلى الأرض كلها كان طلٌّ» (قض 6: 36-40). وتناجي الكنيسة اليونانية العذراء قائلةً: ”أنتِ وحدك أيتها الغيمة التي بلا عيب، من بطنكِ قدَّمتِ للمسيح حمَلَ الله طبيعتنا لتكون هي جزَّته... فلنعظِّم السحابة المنيرة التي نزل فيها سيد الكل كندى من السماء على الجزَّة، ولأجلنا اتخذ جسداً وصار إنساناً“. ويرتل المزمور 72 الذي لسليمان قائلاً: «ينزل مثل المطر على الجزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض» (مز 72: 6). والقديس يوحنا ذهبي الفم يُفسِّر ”الطل على الجزَّة“ بأنه رمز التجسُّد، إذ يقول: [داود النبي يُشير إلى حضرة الرب المتجسِّد في تلك الآية (السابقة)، لأنه بلطف وبلا ضجيج دخل في رحم العذراء](1). وبحسب التفسير الرمزي الذي يشير إلى والدة الإله، فإن الجزَّة لم تَعُد هي شعب إسرائيل، بل هي العذراء التي حلَّ عليها الروح القدس - الندى أو المطر - والتي تجسَّد منها المسيح مثل الطلِّ على الجزَّة ومثل المطر الذي يروي الأرض. أما بخصوص العلامتين اللتين طلبهما جدعون من الله كدليل على نصرة شعبه وعلاقتهما بوالدة الإله، فلعلنا نرى نوعاً من التماسك أو الاندماج لهذين الامتحانين: فالامتحان الأول يوحي بأن الروح القدس يحلُّ بلطف على العذراء مثل الندى أو المطر على الجزَّة، وذلك عند بشارة الملاك لها، وهكذا يصير المسيح ابناً للقديسة مريم. والامتحان الثاني قد يوحي بأن المسيح بفعل الروح القدس في يوم الخمسين سيصير سهل المنال لجميع الشعوب، ولكن دون أن ينأى بنفسه عن العذراء التي كانت حاضرة في يوم الخمسين! الملكة: مزمور 45 هو من أروع المزامير، فهو يستدعي جلال وجمال الملك وملكته بأسلوب شعري ومجازي (استعاري). فهو يمكن أن يُسمَّى ”قصيدة زفاف ملكية“، لأنه يُصوِّر احتفالاً بهيجاً لزيجة ملكية. وكثيراً ما يُستعمل هذا المزمور في الصلوات الطقسية لتكريم والدة الإله، كما تُستعمل ما فيه من صفات كألقاب للعذراء مثل: ”الملكة“، و”ابنة الملك“، و”مدينة إلهنا“، و”الحمامة“، و”الجبل المقدس“. وأفضل مثال لذلك هو لحن الأوتار العشرة الذي يُقال في صوم العذراء وفي عيدها. وهذا هو نصه: [هذه العذراء نالت اليوم كرامةً، هذه العروس نالت اليوم مجداً، هذه التحفت بأطراف موشَّاة بالذهب مزيَّنة بأنواعٍ كثيرة. داود حرَّك الوتر الأول من قيثارته صارخاً قائلاً: ”قامت الملكة عن يمينك أيها الملك“. وحرَّك الوتر الثاني من قيثارته صارخاً قائلاً: ”اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أُذنك وانسي شعبك وبيت أبيكِ“ وحرَّك الوتر الثالث من قيثارته صارخاً قائلاً: ”كلُّ مجد ابنة الملك من داخل مشتملةً بأطراف موشَّاة بالذهب“. وحرَّك الوتر الرابع من قيثارته صارخاً قائلاً: ”يدخلن إلى الملك عذارى خلفها“. وحرَّك الوتر الخامس من قيثارته صارخاً قائلاً: ”عظيمٌ هو الرب ومُسبَّحٌ جداً في مدينة إلهنا على جبله المقدس“. وحرَّك الوتر السادس من قيثارته صارخاً قائلاً: ”أجنحة حمامة مغشَّاة بفضة ومنكباها بصُفرة الذهب“. وحرَّك الوتر السابع من قيثارته صارخاً قائلاً: ”جبل الله الجبل الدسم، الجبل المُجبَّن، الجبل الدسم“. وحرَّك الوتر الثامن من قيثارته صارخاً قائلاً: ”أساساته في الجبال المقدسة. أحب الرب أبواب صهيون“. وحرَّك الوتر التاسع من قيثارته صارخاً قائلاً: ”تكلَّموا من أجلكِ بأعمال كريمة يا مدينة الله“. وحرَّك الوتر العاشر من قيثارته صارخاً قائلاً: ”الرب اختار صهيون ورضيها مسكناً له“... اشفعي فينا يا سيدتنا...](2). والشروحات الآبائية كثيراً ما تربط بين الملك والملكة في هذا المزمور، وبين المحب والمحبوبة في سفر النشيد. فمثلاً يُشير أوريجانوس إلى هذا المزمور في شرحه لسفر النشيد الذي يرى أنه قصيدة زفاف وضعها سليمان الحكيم بأسلوب درامي، حيث جعل الشخصيات الرئيسية هي: ”العروس والعريس“، و”بنات أورشليم“، و”الحرس الطائف في المدينة“. ويشير أوريجانوس إلى الملك في مزمور 45 بأنه هو المسيح العريس، وبأن الملكة هي الكنيسة العروس. كما يربط أوريجانوس ما جاء في سفر النشيد عن العروس بما جاء في مزمور 45 بقوله: [إنها اقتيدت إلى خدر الملك: «أدخلني الملك إلى حجاله» (نش 1: 4)، وقد صارت ملكة: «جُعِلَت الملكة عن يمينك بذهب أوفير (أو بحسب السبعينية: ”موشَّى بالذهب، مزيَّنة بأنواع كثيرة“)» (مز 44: 9 - حسب السبعينية). أما عن العذارى اللائي تبعنها، فقد قيل: «يدخلن إلى الملك عذارى في إثرها... يبلغن بفرح وابتهاج، يدخلن إلى هيكل الملك» (مز 44: 15،14 - حسب السبعينية)](3). والقديس ميثوديوس في شرحه لهذا المزمور يقول: [الملكة في هذا المزمور هي التي - إذ نالت الأسبقية على كثيرين - أخذت مكانها عن يمين الله، وهي التي اكتست بثوب موشَّى بذهب الفضيلة، والتي اشتهى الملك حسنها، وهي ذلك الجسد المبارك غير الدنس الذي جاء به الكلمة الإلهي إلى السماء وجعله عن يمين الآب، وهو مزيَّن بثوب ذهبي، أي بمطالب الخلود الذي سمَّاه المزمور مَجازيّاً: ”أطراف موشَّاة بالذهب“. هنا نجد ثوباً مطرَّزاً بمهارة ومنسوجاً بكل أنواع الأعمال الفاضلة مثل: العفة، والفطنة، والإيمان، والمحبة، والصبر، وجميع السجايا الصالحة الأخرى؛ وهذه كلها تكسو الإنسان بثوبٍ من ذهب](4). وتشير الملكة أيضاً إلى النفس البشرية، فينبغي علينا دائماً عندما نتأمل في شخصية العذراء وعندما نطوِّبها بالتسابيح أن نطبِّق فضائلها على نفوسنا لنقتدي بها، بل يجب أن نعتبر أن روح كل منا عذراء مخصَّصة للرب الذي حلَّ فيها على مثال العذراء. فقد قال أوريجانوس أيضاً: [إننا نجد الجمال الحقيقي في المخلِّص، وأيضاً بجوده ورحمته امتدَّ هذا الجمال إلى النفوس: «تقلَّد سيفك على فخذك أيها القوي بجلالك وجمالك» (مز 44: 3 - سبعينية). فلنتعلَّم من داود النبي أن هذا الجمال يمتد إلى النفس البشرية: «اسمعي يا ابنتي وانظرى وأميلي أُذنك وانسي شعبك وبيت أبيك فإن الملك (أي العريس) قد اشتهى حسنك (عدد 11،10)»](5). والقديس غريغوريوس النيسي يربط أيضاً بين سفر النشيد ومزمور 44 (حسب السبعينية). فعندما يتكلَّم عن جمال العروس المحبوبة في سفر النشيد يستحضر جمال أورشليم السماوية ”مدينة الملك“، فيقول: [يبدو الجلال الإلهي مثل جمال أورشليم السماوية الحرَّة وأُم كل حرٍّ. وقد سماها الرب يسوع نفسه: «مدينة الملك العظيم» (مت 5: 35). وهي تحوي في داخلها غير المُحْوَى، لأن الله يسكن فيها ويُزيِّنها بحضرته، فتحصل أورشليم السماوية على جماله، جمال مدينة الملك العظيم! والمزمور يقول عن هذا الجمال: «بجلالك وجمالك... انجح واملك من أجل الحق والدِّعة (الوداعة) والعدل (البر)» (مز 44: 4،3 - سبعينية). وهكذا، فإن الجمال الإلهي قد اتصف بالحق والبر والوداعة، وبالتالي فإن النفس التي تجمَّلت بمثل هذه الزينات تصير بهيةً مثل أورشليم التي تزيَّنت بجمال الملك](6). والقديس باسيليوس يعتبر أن الآية التي تخاطب العريس قائلةً: «باركك الله إلى الدهر» (مز 44: 2) تشير إلى بشرية المسيح المتجسِّد من العذراء، والذي «كان يتقدَّم في الحكمة والقامة والنعمة» (لو 2: 52)، كما أنه يعتبر الملكة ابنة الملك المذكورة في الآيات: «اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أُذنك... كل مجد ابنة الملك من داخل... يدخلن إلى هيكل الملك» (مز 44: 10-15) أنها تشير إلى الكنيسة وأيضاً إلى نفس المؤمن التي تتشبَّه بالعذراء، ويربط ذلك بمحبوبة سفر النشيد. كما أنه يعتبر ”الثياب الموشاة بالذهب“ أنها هي تعاليم الكنيسة، فيقول: [هكذا تقف الملكة، العروس المتحدة بالعريس الكلمة الإلهي، التي لا تملك الخطية عليها بعد، بل إنها تشارك في ملكوت المسيح. إنها عن يمين المخلِّص، بثياب موشاة بالذهب، أي التعاليم العديدة المنسوجة بالمعرفة الروحية](7). ورغم أن آباء القرون الأولى لم يشيروا إلى الملكة في مزمور 44 بأنها هي العذراء، إلاَّ أن الكنيسة اليونانية تعتبرها هكذا في ألحان عيد دخول العذراء إلى الهيكل لتكريس حياتها للرب، فتقول مثلاً: [أيتها العذارى حاملات المصابيح ابتهجن اليوم وابدأن في التلحين، أيتها الأُمهات رافِقْنَهُنَّ في التماجيد للملكة والأُم عند دخولها إلى هيكل المسيح الملك]. وأيضاً: [قد رآكِ الأنبياء برؤيتهم الإلهية من على بُعد وأخبروا عنكِ مُسْبقاً أنكِ أنتِ آنية وعصا (هارون)، ولوح العهد الذي كتبه الله، والفُلْك، والمائدة، والمنارة الذهبية، والسُّلَّم، والقصر (بيت الملك)، والجبل المقدس، ومحفَّة سليمان، والخيمة المقدسة، والقنطرة (أو الكوبري) التي تقود من الأرض إلى السماء. إننا نرى هذه الصور الرمزية مُحقَّقةً تماماً فيكِ أيتها العذراء الطاهرة، ونُعلن أُمومتكِ الإلهية](8). ومن أجمل أرباع التسبحة السنوية ما جاء في لُبش يوم الاثنين: ”يا جميع العذارى (أي جميع النفوس) أحببن الطهارة لكي تصرن بنات القديسة مريم“! (يتبع)
|
|||
(1) ”شرح إنجيل متى“- 26: 39. (2) كتاب: ”خدمة الشماس“- ألحان صوم العذراء وعيدها. (3) Origen, Comm. Cant., 243. (4) Methodius of Olympus, Symposium, 8: ACW 27, 103-104. (5) Hom. Ezech. 13,2. (6) Canticles, 15. (7) شرح القديس باسيليوس للمزمور 44: 120. (8) The Service Books of the Byzantine Church, June Menaion, 2d ed. |