من انطباعات واختبارات قارئ لكتابات أبينا الروحي القمص متى المسكين |
|
|
الأب متى المسكين قصة حب ابتدأ ولن ينتهي، قُدِّرَ للكثيرين أن يسمعوا عن هذا الأب العظيم، وقُدِّرَ للكثيرين أن يتعرَّفوا على فكره والإعجاب به، ولكن قُدِّر للبعض - ويا لغبطتهم - أن يحبوا هذا الرجل وهم ليسوا بقليلين.
فحينما يقترب المرء من هذا الرجل، إذا به ينجذب انجذاباً شديداً لفكره الأخَّاذ، وعذوبة كلماته، وعمق تأمُّلاته، وشمولية رؤيته، ورصانة وقوة تعبيره، إلى آخر ذلك من جماليات الإنشاء. وهذا هو بداية الطريق الطويل الذي إذا ابتدأه شخص، قلَّما حاد عنه. وأما امتداد الطريق ولانهائيته فتكمن في أن المتكلِّم هو ”روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم“ (مت 10: 20).
فعذوبة صوت الأب متى المسكين، وجهاده، وصلواته، وموهبته، وعطية الروح له؛ كل هذا هو البعد الآخر الذي يمتاز به الأب متى المسكين عن أعاظم كُتَّاب العالم، ويمتاز به كل مَن تكلَّم بالروح والحق، وليس من حكمة عالِم، وعبقرية عقل، وطلاوة لسان.
وقد أعطى هذا الناسك الكبير المَثَلَ والبرهانَ للإنسان الروحي، أو كما أفاض هو في تفسيره للإنسان الجديد، فكان هو برهان قوله، بل صورة إيمانه بالخلقة الجديدة، حتى إذا التمس أحدهم البرهان وجده دون سؤال. وقد استلهم كل شيء من الإنجيل، وحقَّق كل شيء بالأسرار، ونال مواعيد الأرض والسماء، فصار هو بحقٍّ سرّاً من الأسرار.
ولا يتعجب أحد من كلمة ”السر“ هذه، فأبناؤه فقط هم الذين يُدركون المعنى الجميل لهذه الكلمة. ومَن أماط اللثام عن هذا السر الغامض هو نفسه، وذلك في الوقت المناسب والمُعيَّن، وخصوصاً لِمَن لم يعرفوه إلاَّ من خلال كتاباته وعظاته، وأحبوه جداً مع أنهم لم يعرفوا صورته لسنوات، وكانت بينهم وبينه قصة حب على المستويين الإلهي والمسيحي.
وقد كان الأب متى المسكين نفسه عظة وكلمة شهادة للمسيح له المجد، إذ سعى أن يكون آخر الكل وآخر مدى للاتضاع، جالساً باختياره - حسب تعبيره من جهة الكنيسة - في المتَّكأ الذي يلي المتكأ الأخير.
ومن مظاهر هذا الاتضاع أنه أوصى أن لا تُعرف سيرته إلاَّ بعد انتقاله، وأن يُشيِّعه فقط خاصَّته القليلون، مُسلِّماً نفسه إلى يدي الله الذي أطاع وصيته إلى النهاية، فنال باتضاعه ومسكنته مجداً فوق مجدٍ. وبهذا أدرك سرّاً آخر، هو أن الذي يتبع وصية حمل الصليب من كل قلبه، لابد أن يُمجَّد بمجد القيامة. إن كل مظاهر البساطة التي انتقل بها هذا الناسك الكبير، هي صورة من صور اتضاع ووداعة المسيح الذي أوصى أن نتعلَّم منه.
- لقد سار الأب متى المسكين في حياته باتضاع إلى أن عَبَرَ من خلال المقبرة البسيطة التي حفرها لنفسه بشجاعة ابن المسيح، إلى جوار إخوته الذين من اتضاعهم لم نعرف عنهم شيئاً، ولكن أسماءهم مكتوبة في سِفْر الحياة، بدون تمييز ولا سياج ولا شاهد قبر، لكي لا ننتبه أبداً إلى الجسد البالي، بل إلى الروح الأبدية التي تحيا مع المسيح. فكانت المقبرة هي بوَّابة خروج أخرى أو ميلاد جديد. وبعيداً عن مجد العالم وتيجانه وزينته، هكذا عَبَرَ من بوَّابة الاتضاع عينها من الأرض إلى السماء، في طريق عكسي من هوانٍ إلى مجد، بدلاً من مجدٍ إلى هوان.
إنَّ مَن يتتبَّع كتابات هذا الأب الجليل ويُعايشها، أو بالأحرى مَن يُعايش هذا الرجل في كتاباته؛ فإنه يسمعه حين يقرأه، ويحسُّه وهو مُمسك بكتاباته، كاسراً حدود القراءة إلى الحضرة. أو ربما ينطبق هذا الإحساس على مَن يتخذ أسلوبه، أو مَن وصل إلى مستواه في التأمُّل العالي الذي ورد في شرحه لمحاوريه ذات مرةٍ عن كيفية الوصول إلى الرؤية العقلية، والوصول إلى صاحب النص!! فهو لم يَختَر الطريق السهل فيما قدَّمه من أبحاث وشروحات كلها تأملية بدرجة عميقة جداً، باحثاً عن البعد الثالث أو البعد السماوي للُّغة. وهو في اجتهاده في القراءة والبحث والطلبة للوصول إلى الحقيقة الكاملة، قد انفتحت بصيرته كهبة من المسيح والروح القدس؛ إذ بهذه الروح الشفَّافة ينقل الأب متى المسكين لغة الإنجيل والبشارة للجميع بلا كيل. ونلمح هذه الخبرات في حديثه عن معايشته لرجال الكتاب المقدس، الذين كان يستغرق تأمُّله في كل واحد منهم من أسبوع إلى ثلاثة أشهر.
- انظره وهو يتتبَّع العذراء القديسة وسعيها النشيط في خدمة أليصابات، وهنا كان انطلاق الرؤية والبصيرة، وكانت منحة السماء للذي أحب من كل قلبه.
”طوبى لِمَن يجلس إليَّ ساهراً ومتعلِّماً“:
لقد ردَّد الأب متى المسكين هذه الآية، وحكى عن جهاده النسكي، وقدَّم الحياة المسيحية على أنها الخلقة الجديدة، وذلك كنموذج استلهمه من المسيح له المجد، والتقط أول علامة من علامات الدرب الضيِّق، وسار وراء المسيح حاملاً صليبه، وتتبَّع قطرات الدم قطرة قطرة وجمعها في قلبه، وقاوم بها الطبيعة العتيقة، وحارب باسم المسيح؛ فنال النجاح وعَبَرَ إلى ملكوت السموات رافعاً رايات الانتصار.
ومن سر أسرار هذا الرجل هو أنه لم يَقُل كلمة لم يُنفِّذها. فلم يكن واعظاً، بل كان يسير وراء المسيح يتحسَّس خطواته. فعَمِلَ أولاً ثم علَّم، قاسى وعانى، ودفع الضريبة كاملة. عاش في ظلام البراري والقفار، ولكن إلهه أنار له طريقه، وفتح له أبواباً في السماء عندما أُغلِقَت أمامه مرات ومرات أبواب العالم والكنائس بل والأديرة. لم ينزوِ قط ولا خارت قواه، بل تلقَّى السهام وهو في جنب المسيح، والشوك على رأسه، والمرارة في حلقه. حمل عار المسيح، فحمل الله عنه كل سوء. أمات نفسه وأضاعها من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل، ومات حقاً مع المسيح؛ فكانت له القيامة بأمجادها.
- اسمعه يقول في كتابه الفريد ”مع المسيح في آلامه حتى الصليب“ - في مقالة ”لأعرفه وقوة قيامته“:
[لذلك فالإنسان الذي يُمارس موته اليومي عن العالم، ومرارة الموت في حلقه، وهو يتألم ويُضرب ويُهان من أجل إيمانه بالمسيح؛ تكون عينه مُسلَّطة على قوة القيامة العتيدة أن يذوقها هنا ليعيشها هناك. فهو يتذوَّق الموت راضياً لكي يبلغ إلى ذَوْق سر القيامة من بين الأموات. من أجل هذا نلاحِظ أن كل الذين واجهوا الاضطهاد الشديد هنا، كانت نفوسهم مرتفعة بسرِّ القيامة].
إن مَن قال هذه العبارة، لاشكَّ أنه أفاضها من فيض تجربته الخاصة. ولنتخيل أن آلام هذا الرجل، التي سمعنا عنها في سيرته؛ هذه الآلام هي التي أفرزت هذا المجد.
كل هذه الميتات كانت له روح قيامة، جعلته جسداً قام من بين الأموات بروح قيامة. وبقوة المسيح أنار وأقام الآلاف بل الملايين على مدى حياته، وأشرق من خلاله نور المسيح.
الأب متى المسكين، روح قيامة،
روح هادئة بعيداً عن الضجيج:
لقد عاش الأب متى المسكين في البراري في أقسى الظروف وأحلك الليالي ظلمة ورِعدة وأزيز رياحٍ عاتية، وسط الصمت المريع في مسرح الشيطان ومرتعه، في هدوءٍ عاش بلا ضجيج. وعندما هاجت عليه الدنيا واقتلعته الأيادي الحاسدة من كل مكان، كان يرحل بلا ضجيج، وكان نوراً وسط الظلمة، يرعى تلاميذه ويُكمِل رسالته أيضاً.
كان مسيحاً، ككل المختارين الذين قبلوا مسحة الروح القدس، وحملوا سمات الخروف.
روح قيامة، ووقودها حياة الألم:
- فلنقرأ عن أيامه التي عاشها في وادي الريان، والتي من خلالها أفرز كتاب ”مع المسيح في آلامه وموته وقيامته“، وهو كتاب عظيم الشأن. فانظر هذا الكتاب من بداية غلافه وتأمل ماذا يقول فيه، فلن تجد في المسيح جُرحاً على جرح إلاَّ وقد لامسته كلمات بل أصابع الأب متى المسكين. هذا الأب الرؤيوي، الذي فاق علماء عصره، هو بمثابة بولس الرسول لأيامنا، أو الذي جاء بروح بولس الرسول الذي أوضح لنا غوامض رسالة الخلاص. فانظر إلى ما يقوله:
[إن سرَّ الصليب بالنسبة للمسيح هو سر مجده. فالآلام الساحقة التي عاناها الرب تحت وطأة التمزيق النفسي بسبب الظلم والالتواء الذي شاهده أثناء المحاكمة، مع هروب التلاميذ، وتسليم يهوذا، وإحساسه أنَّ حياته ثمَّنها رؤساء الكهنة باتفاق مع أحد التلاميذ بثلاثين من الفضة؛ هذه كلها كانت مَعْبراً من عالم التفاهة المتناهية إلى مجد الآب. وعلى المعبر عينه يلزم أن تمر أقدام الإنسان في كل زمان ومكان].
[المسيح سكب فينا قوتين: قوة الحب، وقوة الصليب ”الألم“. وبقبولنا هاتين القوتين يعمل المسيح فينا سرّاً لنتحرَّك به ومعه، ونصل إلى الآب ويتم بهما (أي بالقوتين) وفيه السر الأعظم، سر الاتحاد بالله].
انظر إلى ما انتهى إليه الأب متى المسكين في هذه الكلمات القليلة التي تفوق اللآلئ، إلى أن ينتهي إلى سر ”الاتحاد بالله“.
وهكذا من سرٍّ إلى سر:
- كان الأب متى المسكين ينتقل في حياته من سرٍّ إلى سر. تنقَّل هذا الروح الهادئ كالفراشة، مثلما ذُكِرَ عن القديس أنطونيوس، فكان كالنحلة النشيطة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة، ليجمع الرحيق على مهلٍ، يمضغه في جوفه، ويُخرجه لنا عسلاً. إن مَن يفهم هذه الأسرار ويعيش على مستواها، فهو ذو عين وإحساس وقلب يحيا على نفس مستوى السر، ويكتشف غوامضه.
- اقرأ كتيب ”الراعي الصالح“ ضمن سلسلة: ”ألقاب المسيح“، وتأمَّل هذا الدعاء الجميل الشديد العذوبة والرقة، والذي يتناسب مع رقَّة المسيح الذي بعظمة اتضاعه قدَّم لنا عِظَم حبِّه:
[يا رب يسوع، يا راعي المجد،
يا صاحب سرِّ الحَمَل، كيف ذَبَحتَ ذاتك لكي تُطعِم غنماتك بسرِّ لاهوتك،
فرفعتَ خرافك من مرابض الأرض إلى مراقي المجد.
مُحيَّرٌ أنا مُحَير بين سر الراعي وسر الحَمَل.
كيف خلعتَ على الصليب رداء الراعي،
ولَبِستَ شكل الحَمَل؟!!
ما سمعنا قطُّ أن راعياً يأخذ شكل حَمَل،
ليقود قطيعه مذبوحاً عَبْرَ وادي الموت،
ويصعد به إلى شاطئ الحياة.
يا راعي النفوس الأمين، نفسي تتبعك].
كل هذه الرقة الكامنة في الرب يسوع، لابد من نفسٍ رقيقة وروح شفَّافة أن تسعى وراءها، لتستلهم منها هذه الكلمات، بل الصور، بل الحقائق التي تُحيِّر العقل بالحق.
ليس جزافاً وليست بالمجان أُعطِيَت أسرار الملكوت، وليست بالمجان أُخِذَت. ليس بالمجان يُعطيها الرب لكل أحد، فالرب أنعم على الخاطئة الباكية والمستغيثة بدموع وأطياب ووعد بالحياة الأبدية بحمل الصليب. لذلك لن يرى روعته إلاَّ الذي كرَّس القلب والعقل والجهد والرجاء والحياة والليالي كلها تحت قدمي المسيح، فيبلِّل قدميه بالدموع، ويمسحهما برموش العيون. والأب متى المسكين كرَّس كل هذا للمسيح، وأحسَّ بأن الله يأتي إلينا على مستوى السر، ولم يَرَه إلاَّ فيه. ولذلك وجده في السر في كل المناسبات وكل المواضع، الخفيفة والثقيلة.
فلم نسمع أبداً عن سرِّ الحَمَل أو عن سرِّ الراعي، وكان من الممكن أن تمرَّ حياتنا دون أن نتعمَّق سر الحمل هذا أو سر الراعي ذاك؛ لولا هذا الرؤيوي الذي تكلَّم من القلب عن المسيح، ورآه راعياً وحملاً في آنٍ واحد، كما كان يراه الأنبياء قديماً ويُخبروا عنه بالألغاز. ولكن في عصر النعمة هذا، فإن كل مَن يريد أن يعرف المسيح بحق، ومن قلب يريده عن إخلاص؛ فالرب يأتي إليه ويصنع في قلبه منزلاً، ويكشف له عن ذاته.
- وتمتد بنا فكرة الحديث عن السر الذاتي الذي هو من صميم كيان هذا الأب، وهي عبقرية الإحساس التي نمت في نفسه منذ الصغر، إذ يقول عن نفسه إنه ابتدأ يعي ويُدرك وهو في سن أربع سنوات. وكان صامتاً يرى ما يدور حوله ثم يفكِّر ويُحلِّل ويُعلِّق، محاولاً أن يجد حلولاً تُرضيه في تفسير ظواهر الحياة، كل الحياة المحيطة به. ومنها علاقته بوالدته التي أدخلت إلى عمق نفسه عشقه للصلاة والعبادة التي لا تتوقف حتى في أحلك الظروف، في الفقر والمعاناة والمرض، بل وتزداد وتلتهب في أجواء الألم. وبحث في نفسه مُبكِّراً جداً وأدرك أنه يوجد سرٌّ دفين، وهو الذي يسوس حياته، وبأنَّ عليه رسالة سوف يقوم بها!
وهنا بداية السر في حديثه عن نفسه إثر رؤيته - وهو طفل - بعض الآباء السوَّاح في زيارة لمنزله المتواضع سائلاً نفسه: ”هل أنا أختلف عن بقية إخوتي؟! وهل مطلوب مني شيءٌ ما“؟! وهنا في هذه السن المبكرة تبدأ الإعلانات عن هذا السر القادم، ميلاد فتى سوف يتفتق عن عبقرية روحية نادرة الحدوث والمثال، وليضرب لنا مثلاً فذّاً وعبقرياً في كل شيء.
- وحتى في كتابته لسيرته الذاتية، كان مثلاً رائعاً قلما تجده عند مَن يكتبون عن أنفسهم. فقد جاءت هذه السيرة الذاتية بإيجاز في الكلام وتركيز في المعاني.
عجباً، فهذا السيل المتدفق في الكلام الذي لا ينضب في حديثه عن المسيح له المجد، نجده مُقِلاًّ جداً في الكلام عن نفسه ورحلتها. فلا يفعل هذا إلاَّ الذي تحقَّق أن العمل عمل المسيح في الأساس، وما نفسه إلاَّ إناء مختار يحفظ عطية الله ويُظهِر عظمة محبة المسيح الملك.
فالكلمات التي جاءت في سيرته الذاتية كانت بإيجاز شديد بغرض إماطة اللثام عن جوانب سيرته؛ وليست استعراضاً لإمكانيات، أو تعريضاً بأشخاص، أو استجداءً لتعاطُف الناس، أو إقلالاً للاختبارات الإلهية؛ ولكن لدرء القيل والقال.
هذا هو تاج السر الإلهي الكامن فيه، والذي جاوز حدود الأرض إلى السماء، وضيق الحاضر إلى الخلود. فجاء الحديث عن سيرته الذاتية موجزاً في القول، لكي تبقى أعماق سر حياته المجيدة محفوظة أمام الله العارف القلوب. وجاءت الشهادة عن نفسه في اتضاع، إنما في وريقات قليلة؛ أما شهاداته عن المسيح فقد جاءت بآلاف الصفحات: شهادة حيَّة، روح نابضة، وإيمان ثابت، وتبشير بوعد الحياة الأبدية! ?
مينا فتح الله
9/3/2008