بمناسبة
|
|
|
+ «جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ»
(مت 25: 10)
تقديم:
تكاد طقوس العبادة في كنيستنا المقدَّسة تصيح كما ببوق سماوي وتنادي أولادها لكي يتمتعوا بمخلصهم الذي يشتهي دائمًا أن يجمعهم في حضنه: في أعماق جسده الذي هو الكنيسة، فنسعد بلحظات من الملكوت، ونستنشق من عبيق حلاوة الأبدية التي لا تخطر على قلب بشر!
ومن تلك الطقوس قراءات الإنجيل في شهر كيهك. ففي هذا الشهر المبارك ننتظر نحن كنيسة المسيح مجيء مسيحنا حسب وعده: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي ... وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ ... إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ، فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ ... وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ ... إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا» (خر 3: 7و8). كما ننتظر تحقيق نبوة إشعياء النبي: «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ ”عِمَّانُوئِيلَ“ (= الله معنا)» (إش 7: 14).
إذًا، فنحن ننتظر المسيَّا، كلمة الله إلهنا، ”الذي رأى مذلتنا ونزل لينقذنا“ مولودًا من امرأة، وذلك لكي عندما تقبله هذه المرأة بإيمان قلبها المكرَّس كله للرب، تصير مثالًا وقدوةً لكل من يفعل مثلها، إذ ”يحل المسيح بالإيمان في قلبه“، لأن أُمّنا ”تتمخض بنا إلى أن يتصور المسيح فينا“ (انظر: أف 3: 17؛ غل 4 : 19).
على هذا الإحساس بَنَت الكنيسة قراءاتها وتسابيحها في شهر كيهك ذي الألحان المفرحة الدالة على يقين إيمانها بالمجيء الخلاصي الأول لسيدها وعريسها الذي يدعوها بملء الحب الذي لا يُدرَك عمق لُجَّته قائلًا في مزمور قداس الأحد الثاني: ”اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي سمعكِ وانسي شعبكِ وبيت أبيكِ، فإن الملك قد اشتهى حسنكِ لأنه هو ربكِ“ (مز 45: 10و11).
لذلك ألهم روح الله آباء الكنيسة أن يجمعوا في قراءات شهر كيهك معظم ما سجلته الأناجيل الأربعة عن النساء اللائي تبعن المخلِّص ”تذكارًا لهُنَّ“ (مر 14: 9)، لأنهن تشبَّهن بالعذراء البتول وصرن قدوةً لنا لكي ننظر إلى نهاية سيرتهن ونتمثل بإيمانهن (عب 13: 7)، ثم نصير نحن بدورنا خميرةً لعجينة البشرية!
في أناجيل آحاد شهر كيهك يمكننا أن نتحسَّس عمل الله مع كل امرأة مذكورة في هذه الأناجيل من جميع الزوايا التي يمكن للرب أن يعمل من خلالها في كل نفس بشرية تتشبَّه بالسيدة العذراء وبتلك النسوة التائبات القديسات.
ويا لحلاوة تسبحتنا اليومية المحبوبة عندما تناجي أُمنا القديسة قائلة:
[وأنتِ أيضًا يا مريم العذراء متسربلة بمجد اللاهوت داخلًا وخارجًا لأنكِ قدَّمتِ شعبًا كثيرًا لله ابنكِ من قِبل طهارتكِ] (ثيئوطوكية الأحد)، وأيضًا:
[يا جميع العذارى أحببن الطهارة لكي تصِرن بنات للقديسة مريم] (لُبش يوم الاثنين).
الإنجيل الرئيسي لقداس الأحد:
وجدت الكنيسة أن الأصحاح الأول من إنجيل القديس لوقا هو أفضل فصل يشرح لنا بدقة الأحداث السابقة مباشرةً لميلاد مخلصنا، فقسَّمته إلى أربعة أقسام لتشمل أناجيل القداس الرئيسية في الآحاد الكيهكية الأربعة، وهي كالآتي:
الأحد الأول (لو 1: 1 – 25): البشارة بميلاد يوحنا المعمدان:
حيث تقدِّم لنا الكنيسة معجزة شفاء الرب لرحم أليصابات العاقر كمثال لكل نفس تلتصق بالرب وتسلك «فِي جمِيعِ وصايا الرَّبِّ وأَحْكَامِهِ بِلا لَوْمٍ»، فتصبح مثمرة كقول المزمور: «الناظر إلى المتواضعين... المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة... الذي يجعل العاقر ساكنةً في بيت أُمًّا لأولاد فرحة» (مز 113: 6 – 9).
الأحد الثاني: (لو 1: 26 – 38): البشارة بميلاد المخلّص:
حيث تضع أمامنا الكنيسة السيدة العذراء كمثال لكل من يكرس قلبه للرب إلهه، فيصبح بإيمانه وحبه هيكلًا ممسوحًا ومقدسًا يملك فيه وعليه مسيح شعبه الحقيقي، لأن «العلي لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي» كما يقول إبركسيس الأحد الثالث (أع 7: 35 – 50).
ويلاحظ اهتمام إبركسيس الأحدين الثاني والثالث بذكر العليقة في عظة الشهيد اسطفانوس لكي ينبهنا إلى أن الله الذي حلّ في العليقة في لهيب نار هو نفسه الذي صار جنينًا في رحم أُمّه بمجرد أن آمنت وخضعت قائلةً: «هوذا أنا أمَة الرب ليكن لي كقولك» (لو 1: 38)، وهو نفسه الذي يولد بداخل كلّ منا لو قبلناه بنفس الإيمان والخضوع بدون أن يحرقنا بنار لاهوته بل يضرم نار حبّه فينا: «جئتُ لأُلقي نارًا على الأرض، فماذا أريد إذا كانت قد اضطربت فعلًا» (لو 12: 49حسب اليوناني)؟ كذلك، كما أنه بواسطة العليقة أرسل الله موسى النبي لينقذ شعبه، هكذا بواسطة أُمّ النور أرسل الآب ابنه ليخلص شعبه!
الأحد الثالث: (لو 1: 39 – 56): زيارة مريم لأليصابات:
حيث تُجسِّد الكنيسة أمامنا كيف تحققت نبوة مزمور إنجيل القداس: «الرحمة والحق التقيا، العدل والسلام تلاثما. الحق من الأرض أشرق، والعدل من السماء تطلّع» (مز85: 10و11)، حيث تَلَاقَى الرب يسوع بيوحنا المعمدان سابقه ومعمّده والشاهد له، كل منهما كجنين في بطن أُمّه. الأول آتٍ من امرأة بلا رجل والثاني من امرأةٍ عاقر. وكما تمجد الله بعمله العجيب في كلتا المرأتين، ها هو مستعدٌ دائمًا أن يعمل في كل من يتشبّه بهما! وهذا هو سر فرح يوحنا الذي أعلنه أيضًا بطريقة إعجازية، إذ ارتكض وهو جنين ساجدًا ومبتهجًا بسيده الذي «عظّم الصنيع معنا فصرنا فرحين»!
الأحد الرابع: (لو 1: 57 – 80): ولادة يوحنا المعمدان:
لقد نزع الرب عار أليصابات – حيث إنَّ العقم كان عارًا على المرأة في العهد القديم – وها هو الآن ينزع عار كل من يتوب عن خطاياه. إن ثمرة تقوى أليصابات وزوجها صار نبيًّا قال عنه الروح القدس على فم زكريا: «وأنت أيضًا أيها الصبي نبيَّ العلي تُدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتُعدّ طرقه، لتُعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم». كما أن انطلاق لسان زكريا بالتسبيح بعد أن انفكت عقدته، كان فيه إشارة إلى شفاء كل نفس جاء المسيح من أجلها من عقدة الشك وعدم الإيمان، حتى تنطلق في تسبيح الرب معطيةً: «ذبيحة التسبيح أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عب13: 15). مباركٌ أنت يا زكريا لأنك لما آمنت شُفيت وأعطاك روح الله أن تتنبّأ بمجيء «قرن الخلاص» مسيّا الذي كان ينتظره جميع آبائك وأجدادك.
النساء القديسات في بقية الأناجيل:
ويذكر إنجيل عشية الأحد الأول المرأة ساكبة الطيب (مر 14: 3 – 9): ويرجِّح الشراح أنها هي مريم أخت لعازر(1)، فقد عبّرت مريم عن شدة حبها للمسيح إذ سكبت على جسده أغلى شيء عندها: «طيب ناردين خالص (أي صافي) كثير الثمن» (يو 12: 3)، وقال الرب إنها تُعتبر قد كفّنت جسده مسبقًا، وإنها تستحق أنه «حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبَر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها» (مر 14: 9)، وهي باعترافها بفضل المسيح تناست الجسدانيات لتشبع من تحت قدمي المعلم بالروحيات، «فاختارت النصيب الصالح (شخص المسيح) الذي لن يُنزع منها» (لو 10: 38 – 42). فصارت مثالًا لنا لأنها تشبّهت بالسيدة العذراء التي كرست حياتها وبتوليتها للرب!
ويذكر إنجيل باكر الأحد الأول الأرملة التي وضعت فلسين (مر 12: 41 – 44): فهي تعلّمنا تسليم الحياة كلها لله بدون تحفُّظ، ولذلك كرّم المسيح عطيتها أفضل من جميع المحرقات والتقدمات!
الأحد الثانى:
ويذكر إنجيل الأحد الثاني المرأة الخاطئة: (لو 7: 36 – 50): فهي تعلّمنا توبة القلب العميقة الناتجة عن توبيخ الضمير الشديد مع البكاء بحرقة القلب وانسحاق النفس المنكسرة، طالبةً المغفرة بعمق التوسل والاشتياق إلى تجديد عهدها مع الرب يسوع الذي آمنت به وأحبته بعمق يفوق التصور مما جعل الرب نفسه يستجيب بمنحها سلامه الكامل: «قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا... إيمانكِ قد خلّصكِ، اذهبي بسلام» (لو 7: 47 – 50).
ويذكر إنجيل باكر الأحد الثاني المرأة التي طوبت العذراء (لو 11: 20 – 28)، ولعل هذا هو ثاني تطويب للعذراء بعد أليصابات تحقيقًا لنبوة العذراء: «منذ الآن جميع الأجيال تطوبني» (لو 1: 48)، إذ قالت المرأة: «طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللتين رضعتهما» فأراد الرب يسوع أن يجعل هذا التطويب يشمل كل من يتشبّه بأُمّه، فقال: «بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه».
الأحد الثالث:
ويذكر إنجيل عشية الأحد الثالث شفاء حماة بطرس (مر 1: 23 – 31): وترمز حُمّى حماة بطرس إلى حُمّى مرض الخطية الذي ابتُليت به كل نفس بشرية حتى يأتي إليها الرب يسوع ويُقيمها فتهرب منها الحُمّى في الحال، ومن فرحها وحبّها له تخدمه هو والجميع من أجله: «فتقدَّم وأقامها ماسكًا بيدها فتركتها الحُمَّى حالًا وصارت تخدمهم».
ويتكلم إنجيل باكر الأحد الثالث عن المرأة الكنعانية (مت 15: 21 – 31): ليت لنا نحن المسيحيين إيمان واتضاع تلك المرأة الوثنية! وقد تباطأ الرب يسوع في استجابته لتوسلاتها من أجل شفاء ابنتها لكي يكشف للأجيال كلها أنَّ الإيمان والاتضاع واللجاجة تحت قدمي المخلّص حتى لدى الذين لم يؤمنوا به بعد، جعله يقول إنه لم يجد ولا في شعب الله مثله. وقد طوّب اتضاعها لأنها أمّنت على كلامه أنها من كلاب الوثنيين وعلى جوعها إلى أن تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها، فاستحقت أن تسمع: «يا امرأة عظيمٌ إيمانكِ، ليكن لكِ ما تريدين. فشُفيت ابنتها من تلك الساعة»!
الأحد الرابع:
ويذكر إنجيل عشية الأحد الرابع النساء اللائي تبعن يسوع (لو 8: 1 – 3): ثلاث آيات فقط تعبّر عن اعتراف تلك النسوة بفضل الرب عليهن لأنهن «كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ... وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ». ومن شدة حبّهن لمخلّصهنّ «كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ». ثم صارت إحداهن، وهي المجدلية، أول من بشر العالم بقيامة الرب.
ويذكر إنجيل باكر هذا الأحد «أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (مر 3: 28 – 35): فعندما يتحرر الإنسان من رباطات اللحم والدم التي تعطله عن صنع مشيئة الله تصبح رسالته في الحياة هي ذاتها رسالة المسيح الشاملة للكل: «لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي».
وهنا لا ننسى الدرس الذي أعطاه يسوع وهو صغير لأُمّه وخطيبها ولنا جميعًا: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانَنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟... وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا» (لو 2: 49 – 51).
وفضلًا عن ذلك، فإن هناك فصولًا أخرى لها علاقة بالنساء، فإن إبركسيس الأحد الأول مثلًا اهتم بذكر ”النساء ومريم أُمّ يسوع“ مع تلاميذ الرب الذين كانوا «يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ» في انتظار حلول الروح القدس الذي شمل التلميذات مع تلاميذ الرب.
إن النفس التي تؤمن وتتوب وتحب مخلّصها وتتعلّق به وتنال بنوتها له يقول عنها روح الله: «كل مجد ابنة الملك من داخل، مشتملةً بأطرافٍ موشاة بالذهب، مزينةً بأشكال كثيرة، تدخل إلى الملك عذارى في إثرها، جميع قريباتها إليه يُقدّمن، يبلغن بفرح وابتهاج، يدخلن إلى هيكل (أو قصر) الملك» (مز 45: 13 – 15 حسب الترجمة القبطية).
افرحي يا نفسي، لأنه قد صار لكِ خلاصٌ هذا مقداره وملكوتٌ لا يتزعزع!
__________________________________
(1) لأنه رغم عدم ذكر اسمها في إنجيل مرقس، إلاّ أن القصة نفسها مذكورة في يو12: 1 - 8 عن مريم أخت لعازر.
*****************************************************************************************************************************
دير القديس أنبا مقار صدر حديثًا كتاب (كـــــــــــود رقم 766 )
دراسة في الأفعال اليونانية المركَّبة الواردة في العهد الجديد
إعداد
الراهب أندرياس المقاري
174 صفحة (من القَطْع الكبير) ........ الثمن 40 جنيها
******************************************************************************************************************************