كان الملك ثاؤدسيوس الصغير ابن الملك أركاديوس، عقيماً لم يرزق ولداً. فأرسل إلى شيوخ شيهيت يطلب إليهم أن يسألوا الله لكي يعطيه ابناً. وكان من بين هؤلاء الشيوخ شيخ كبير وقديس يسمَّى إيسيذوروس، فكتب إليه هذا القديس كتاباً يُعرِّفه فيه أن الله لم يُرد أن يكون له نسل يشترك مع أرباب البدع بعده.
فلما قرأ الملك كتاب الشيخ، شَكَر الله، لكن أشار عليه قوم أن يتزوج امرأة أخرى ليرزق منها نسلاً يرث الملك من بعده. فأجابهم قائلاً: إنني لا أفعل شيئاً غير ما أمر به شيوخ برية شيهيت. ثم أوفد رسولاً من قِبَلِهِ اسمه ”مرتينوس“ ليستشيرهم في ذلك. وكان لمرتينوس ابنٌ اسمه ”زيوس“ اصطحبه معه للزيارة والتبرك من الآباء الشيوخ. فلما وصلا وقرأ الشيوخ كتاب الملك، وكان القديس إيسيذورس قد تنيَّح، أخذوا الرسول وذهبوا به إلى حيث يوجد جسده ونادوا قائلين: يا أبانا قد وصل كتاب من الملك فبماذا نجاوبه. فأجابهم صوت من الجسد الطاهر قائلاً: ”ما قلته قبلاً أقوله الآن، وهو أن الرب لا يرزقه ولداً يشترك مع أرباب البدع حتى ولو تزوج عشر نساء“، فكتب الشيوخ كتاباً بذلك للملك.
ولما أراد الرسول العودة، أغار البربر على الدير، فوقف شيخ عظيم يقال له ”الأنبا يوأنس“ وكان رئيسهم وأباهم الروحي ونادَى الإخوة قائلاً: ”هوذا البربر قد أقبلوا لقتْلنا، فمَنْ أراد الاستشهاد فليقفْ، ومَنْ خاف فليلتجئ إلى الحصن“، فالتجأ البعض إلى الحصن، وبقي مع الشيخ ثمانية وأربعون، فذبحهم البربر جميعاً. وكان مرتينوس وابنه منـزويَينْ في مكانٍ، وتطلَّع الابن إلى فوق فرأى الملائكة يضعون الأكاليل على رؤوس الشيوخ الذين قُتِلوا، فقال لأبيه: ها أنا أرى قوماً روحانيين يضعون الأكاليل على رؤوس الشيوخ فأنا ماضٍ لآخذ لي إكليلاً مثلهم، فأجابه أبوه: وأنا أيضاً أذهب معك يا ابني. فعاد الاثنان وظهرا للبربر فقتلوهما ونالا إكليل الشهادة.
وبعد ذهاب البربر نزل الرهبان من القصر وأخذوا الأجساد ووضعوها في مغارة وصاروا يرتلون ويسبحون أمامها كل ليلة.
وجاء قوم من البتانون وأخذوا جسد الأنبا يوأنس، وذهبوا به إلى بلدهم. وبعد زمان أعاده الشيوخ إلى مكانه.
وكذلك أتى قوم من الفيوم وسرقوا جسد زيوس ابن مرتينوس، وعندما وصلوا به إلى بحيرة الفيوم، أعاده ملاك الرب إلى حيث جسد أبيه.
وقد أراد الآباء عدة مرات نقل جسد الصبي من جوار أبيه فلم يمكنهم. وكانوا كلما نقلوه يعود إلى مكانه. وقد سمع أحد الآباء في رؤيا الليل من يقول ”سبحان الله، نحن لم نفترق في الجسد ولا عند المسيح أيضاً، فلماذا تفرقون بين أجسادنا؟“.
ولما ازداد الاضطهاد وتوالت الغارات والتخريب في البرية، نقل الآباء الأجساد إلى مغارة بنوها لهم بجوار كنيسة القديس مقاريوس. وفي زمان الأنبا ثاؤدسيوس البابا الثالث والثلاثين بنوا لهم كنيسة. ولما أتى الأنبا بنيامين البابا الثامن والثلاثون إلى البرية، رتب لهم عيداً في الخامس من أمشير وهو يوم نقل أجسادهم إلى هذه الكنيسة. ومع مرور الزمن تهدَّمت كنيستهم فنقلوهم إلى إحدى القلالي حتى زمان المعلم إبراهيم الجوهري فبني لهم كنيسة حوالي أواخر القرن الثامن عشر للميلاد ونقلوا الأجساد إليها. ولا زالت موجودة إلى اليوم بدير القديس مقاريوس. صلاتهم تكون معنا. آمين .
يقول الأب متى المسكين عن سيرة هؤلاء الشيوخ:
هؤلاء الأجلاء الذين قدَّموا حياتهم فجأة على مذبح الحب الإلهية، بيِّنة على أمانة سيرتهم الطاهرة التي كانوا يكتبونها كل يوم في السموات بجهادهم وعبادتهم الخالصة النقية من حب العالم وشهوة الدنيا، فلما بوَّق لهم الملاك ميَّزوا صوته وأدركوا الدعوة في الحال، وكانوا على أتم استعداد للسفر السعيد، لم يكونوا ممسوكين بشيء من معوِّقات هذا الدهر:
لقد خلعوا طواعية كل كرامة فانية فتأهَّبوا باتضاعهم المستعد للبس الإكليل الذي لا يفنى.
لقد استوفوا كل ديون الناس بالمحبة – كقول الرسول – فلم يكن في كشوف معاملاتهم ما يعوِّق الضمير أو يعطِّل السفر.
لقد افتدوا الوقت الشرير بيقظة القلب، فلم يأخذهم النعاس القاتل، ولا سقطوا كغيرهم في بالوعة الاهتمامات الكاذبة، ولا سرقهم تسويف العمر في الباطل، ولا أدركتهم ظلمة اليأس لحظة سماع البوق.
لقد جمعوا الزيت الطيِّب في أواني الصلاة، وأشعلوا المصابيح بنار الحب المقدَّس، وملأوا الزِّق بدموع التوسُّل، وتأهَّبوا لملاقاة العريس مستبشرين ومطمئنين.
لقد أكلوا الجسد وشربوا الدم الطاهرين متواتراً، فَحَسبوا فيهما جيداً حساب الألم وأدركوا بهما سر الموت، وبلغوا فيهما يقين القيامة، فلما دعا داعي الاستشهاد ولمع السيف في يد القاتل حسبوها لحظة العمر لبلوغ الحياة والقيامة الأفضل!!
آخرون مثلهم هربوا من العذاب ووجلوا من رعبة الموت وصعدوا واختبأوا في الحصن، وفضَّلوا البقاء هنا قليلاً على دوام الحياة هناك. أما هؤلاء التسعة والأربعون السعداء فأقبلوا على الموت وكأنه الخلاص عينه، فعُذِّبوا ولم يقبلوا النجاة، لكي ينالوا قيامة أفضل، فنالوا، ونلنا من بعدهم ميراث إيمانهم ودمائهم مصباحاً لا ينطفئ نوره أمام كل الذين يحبون النور ويحبون السير وراءهم في النور إلى جيل الأجيال!
لم يدخلوا الحصن ولا اختبأوا، فصاروا هم بذاتهم حصناً وخط دفاع وقلاع إلى مئات من السنين يصدُّون بصلواتهم جحافل الظلمة عن ديرهم وعن كل مَنْ يجري إليهم ويتشفَّع بهم.
مَنْ كان يظن من إخوتهم أنهم هكذا سريعاً ومن دونهم ينطلقون؟ كانوا يُصلُّون معاً، وكانوا يسهرون معاً، وفي المعجن يعجنون كغيرهم، وفي المخبز يخبزون، وعلى رَحَى الطاحون يجلسون، وأخيراً أُخذ الواحد وتُرك الآخر! ويا سعد الذي أُخِذَ، ويا لشقاء مَنْ فضَّل الشقاء!
في لحظة من لحظات النهار وفي ومضة من ومضات السيف غابت عنهم شمس النهار، وغاب الدير كله، وغابت الأرض والأسوار، وفجأة انفتحت أعينهم على أمجاد ليست من هذا الدهر، وعلى نور عجيب، إنه وجه يسوع، نهاية المطاف، فكان هو نهارهم وشمسهم وديرهم الجديد وأجرتهم السعيدة.
لقد وُزِنوا جميعاً في الموازين فوُجِدوا كاملين، وفُحِصت الوكالة في القليل فوُجِدوا جميعاً أُمناء، فأَخذوا في الحال تكليفاً على عشر مدن، وكان ديرنا السعيد واحداً من هذه المدن العشر.