وُلِدَ القديس يوأنس القصير حوالي سنة 339م في مدينة ”بتسا أو بَمجا Pamje“ (البهنسا الحالية – المنيا) بصعيد مصر. وكان فقيرًا مُحتاجًا، ولكن فقراء ومساكين هذا العالم اختارهم الله أغنياء بالمسيح يُغنون كثيرين في ملء الروح القدس. وكان هو وأخ له من أبوَيْن صالحَيْن خائفَيْن الله، غنيَّيْن في الإيمـان والأعمال الصالحـة. فلما بلغ يؤانس الثامنة من عمره، تحوَّل قلبه عن أباطيل العالم وشهواته وأمجاده، واشتاق للرهبنة. فحرَّكته نعمة الله أن يمضي إلى بريـة شـيهيت. وهنـاك اهتدى إلى شيخ قدِّيس مُجرَّب، يُقال لـه ”أنبـا بمويه“ مـن البهنسا، وسأله أن يسمح له بالإقامة عنـده.
فقال له الشيخ مُختبِرًا: ”يا ابني، إنك لا تقدر على الإقامـة معنا، لأن هـذه بريَّـة مُتعِبة، والساكنون فيها يقتاتون من عمل أيديهم، فضلًا عن الصوم الكثير والصلاة والنوم على الأرض والتقشُّف. فارجع إلى العالم، وعِشْ في التقوى“.
فردَّ عليه أنبا يؤانس: ” لا ترُدُّني، يا أبي، من أجل الله، لأني أتيتُ لأكون تحت طاعتك وفي معونة صلاتك. فإذا قَبلتني، فإني أومِن أنَّ الرب يُطيِّب قلبك عليَّ“.
ولمَّا كان من عادة الأب بمويه أنه لا يعمل عملًا بعَجَلَة، فقد سأل المسيح أن يكشف له أَمْر هذا الشاب. فظهر له ملاك الرب، قائلًا له: ”اقبَله، فإنه سيكون إناءً مُختارًا“.
فأدخله الأب بمويه، وقصَّ شعر رأسه، وأَخَذَ ثياب الرهبنة، ولبث يُصلِّي عليها ثلاثـة أيـام وثلاث ليالٍ. وعندما ألبسه إيَّاها، رأى ملاكًا يُصلِّب عليها.
وابتـدأ القديس يؤانس حياتـه الرهبانيـة بنُسْكٍ عظيم وأعمال فاضلة.
وفي أحد الأيام، أراد الأب بمويه أن يمتحنه، فطرده من عنده قائلًا: ”لا أقدر أن أسكن معك“. فأقام القديس يؤانس سبعة أيام خارج باب القلاية. وفي اليوم السابع، خرج الشيخ قاصدًا الكنيسة، فرأى سبعة ملائكة معهم سبعة أكاليل يضعونها على رأس يؤانس. ومن ذلك اليوم، صار عنده مُكرَّمًا مُبجَّلًا.
وحدث يومًا أنَّ الأنبا بمويه وجد عودًا يابسًا، فأعطاه لأنبا يؤانس، وقال له: ”خُذْ هذا العود واغرسه واسْقِه“([1]). فأطاعه وصار يسقيه كل يوم مرتين، وكان الماء يبعد عن مسكنهما مقدار اثني عشر ميلًا. وبعد ثلاث سنوات نما العود وصار شجرة مُثمرة. فأخـذ الشيخ مـن ثمر الشجرة، وطاف بها على الشيوخ قائـلًا: ”خُذوا كُلوا من ثمرة الطاعة“. ولا تزال هذه الشجرة باقية في المكان الذي فيه ديره.
([1]) هذه الشجرة يُخبرنا عنها كثيرٌ من السُّيَّاح الأوروبيين منذ عام 1657م. وكانت ما تزال موجودة حتى عام 1921م في مكان دير القديس يحنس القصير. عن: دكتور منير شكري، ”أديرة وادي النطرون“، دير السريان، الطبعة الثانية: 2008م، ص 68.
ومرض الأب بمويه اثنتي عشرة سنة، وكان الأب يؤانس يخدمه طوال هذه المدة، ولم يسمع من مُعلِّمه في أثنائها قط أنه قصَّر في خدمته، لأن القديس بمويه كان شيخًا ذا اختبار، وقد جُرِّب كثيرًا، وأضناه المرض حتى صار كالعود اليابس ليكون قُربانًا مُختارًا.
وعند نياحة القديس أنبا بمويه، وقبل موته، جمع الشيوخ، وأمسك بيد الأنبا يؤانس وسلَّمه لهم قائلًا: ”احتفظوا بهذا، لأنه ملاكٌ وليس إنسانًا“. وأوصاه أن يُقيم في المكان الذي غَرَسَ فيه العود اليابس الذي صار شجرة مُثمرة. وبعد هذا أتى أخوه الكبير وترهَّب عنده، وصار هو أيضًا راهبًا فاضلًا.
ولما صيَّروا الأنبا يؤانس قمصًا على كنيسته، حدث أنه لمَّا وضع البابا ثاؤفيلس (البطريرك الـ 23) يده على رأسه، أنْ أتى صوتٌ من السماء، سمعه الحاضرون، قائلًا: ”مستحقٌّ، مستحقٌّ“. وقد امتاز هذا القديس بأنه كان وقت خدمة الأسرار، يعرف مَن يستحق القربان ومَن لا يستحقه من المتقدِّمين للتناول.
عَلِمَ شيوخ البرية عن ارتداد بائيسة التي وُلِدَت في منوف من أبوَيْن غنيَّين، ولمَّا توفيا جعلت منزلها مأوَى للغرباء المساكين، واجتمع بها قومٌ أردياء واستمالوا قلبها إلى الخطية، حتى جعلت بيتها ماخورًا تقبل فيه كلَّ الأثمة، فوصل خَبَرُها إلى شيوخ شيهيت القديسين فحزنوا حُزْنًا عميقًا، وطلبوا من القديس يوأنس القصير فحزنوا حُزنًا عميقًا، وطلبوا من القديس يوأنس القصير أن يمضي إليها ويساعدها على خلاص نفسها، فذهب القديس حالًا بعد أن طلب منهم أن يُصلُّوا لأجله. ولمَّا وصل إلى بيتها قال للبوابة: ”أعْلِمي سيِّدتَكِ بقدومي“. فلمَّا أعلَمتْها تزيَّنت واستدعته، فدخل وهو يرتِّل قائلًا: «إذا سرتُ في وادي ظل الموت لا أخاف شرًّا لأنكَ أنتَ معي» (مز 23: 4). ولمَّا جلس نظر إليها وقال: ”لماذا استهنتِ بالمسيح فاديكِ وأتيتِ هذا المُنكَر؟“ فارتعدت وذاب قلبها من تأثير كلام القديس، ثمَّ أحنَى رأسه إلى الأرض وبكى، فسألتُه: ”ما الذي يُبكيكَ؟“ فأجابها: ”لأني أُعاين الشياطين تلعب على وجهِكِ، ولهذا أنا أبكي عليكِ“. فقالت: ”وهل لي توبة؟“ أجابَها: ”نعم، ولكن ليس في هذا المكان“. ثُمَّ أخذها إلى البرِّية، ولمَّا أمسَى النهار نامت، والقديس نام بعيدًا عنها. ثمَّ وقف القديس ليُصلِّي صلاة نصف الليل، فرأى عامود نور نازلًا من السماء وملائكة الله يحملون روحها، فاقتربَ منها فوجدها قد ماتت، فسجد إلى الأرض وصلَّى صلاة طويلة من أجلها، فسمع صوتًا يقول: ”إن توبة بائيسة قد قُبِلَت وقت توبتها، لأنها تابت بقلبها توبةً خالصةً“. وبعد أن دَفَنَ جسدها وَصَلَ إلى ديره وأعلَمَ الشيوخ، فمجَّدوا الله الذي لا يشاء موت الخاطئ بل أن يرجع وتحيا نفسه.
وكان الأب البطريرك الأنبا ثاؤفيلس قد بنى كنيسة للثلاثة فتية القديسين بالإسكندرية، ورغب في إحضار أجسادهم فيها. فـاستحضر القديس يـؤانس، وكلَّفه بالسَّفَر إلى بـابـل الكلدانيين، وإحضار الأجسـاد المقدَّسة.
وبعـد إحجامٍ كثير، قَبِلَ القيام بهـذه المهمة الشاقَّـة. وخـرج مـن عند البطريرك، فحملته سحابة إلى بابل. فدخل المدينة وشاهَدَ آثارها وأنهارها وقصورها، ووجد أجساد القدِّيسين.
ولمَّا شرع القديس في نقل أجساد القدِّيسين من مكانها، خرج صوتٌ من الأجساد المقدَّسة يقول له: ”إنَّ هذه إرادة الله، أنهم لا يُفارقون هذا المكان إلى يوم القيامة. ولكن لأجل محبة البطريرك ثاؤفيلس وتعبك أيضًا، عليك أن تُعرِّف البطريرك، أن يجمع الشعب في الكنيسة، ويأمر بتعمير القناديل ولا يُوقِدها. ونحن سنظهر في الكنيسة بعلامةٍ تعرفونها في ذلك الحين“.
فـانصرف القديس أنبـا يؤانس عائـدًا إلى الإسكندرية، وعَرَّف البطريرك بما قاله القدِّيسون. وقـد حدث عندمـا كـان البطريـرك والشعب بـالكنيسة، أنَّ القناديـل أنـارت فجأة، فـأعطوا المجد لله.
وبعد ذلك، أغار البربـر على بريَّة شيهيت، فتركها القديس أنبا يؤانس.
وعندمـا سُئل في ذلك، أجـاب بأنـه لم يتركها خوفًا من الموت، ولكن لئلا يقتله بربري، فيذهب إلى الجحيم بسببه. وأنه لا يريد أن يكون هو في راحة، وغيره في عذاب بسببه؛ لأنه وإن كان هذا البربري يُقاومه في العبادة، إلاَّ أنه أخوه في الصورة.
وقَصَدَ القديس يؤانس جبل الأنبا أنطونيوس عند القلزم، وسكن بجوار قرية هناك، فرزقه الله رجلًا مؤمنًا كان يخدمه.
ولمَّا أراد الرب انتقاله من هذا العالم الفاني إلى حياة المجد وإنهاء غربته على هذه الأرض، أرسل إليه قدِّيسَيْه أنبا أنطونيـوس وأنبا مقـار ليُعزِّياه ويُعرِّفاه بانتقاله من هذا العالم.
وحينذاك، مـرض القديس مـرضًا بسيطًا، وأرسل خادمه ليأتي له بشيء من القرية، وكان ذلك ليلـة الأحـد. فحضرت الملائكة وجماعـة القدِّيسين، وتسلَّموا روحـه الطاهـرة، وصعدوا بها إلى السماء في (20 بابه الموافق 30 أكتوبر) سنة 409م.
وعندمـا عـاد الخـادم، رأى نفس القديس وجماعة القدِّيسين يُحيطون بها، والملائكة يُرتِّلون أمامها. وفي مقدِّمة الكل كان واحدٌ منظره مثل الشمس وهو يُرتِّل. ودُهِشَ الخادم من هذا المنظر الرائع.
فأتاه ملاكٌ وعرَّفه عن اسم كل واحد من القدِّيسين، بقوله له: هذا أنبا باخوم، وهذا أنبا مقار، إلى آخره. فقال له الخادم: ”ومَن هذا المُتقدِّم المُنير كالشمس“؟ فأجابه الملاك: ”هذا أنطونيوس أبو جميع الرهبان“!
ولما وصل الخادم إلى المغارة، وجد جسد القديس أنبا يؤانس ساجدًا على الأرض، لأنه أسْلَم روحه الطاهرة في حال سجوده. فبكى الخادم بكاءً عظيمًا، وأسرع إلى أهل القرية، وأعلمهم بما حدث.
فحضر أهـل القريـة، وحملوا جسد القديس بكرامـةٍ عظيمة. وعنـد دخولهم المدينـة، وهم حاملون الجسد المقدَّس، أجرى الله مـن جسد القديس عجائبَ كثيرة.