الافتتاحية


إشراقة نور الحب
لقداسة البابا تواضروس الثاني




[إن الحرية قد تجعل الإنسان حرًّا من الناس، ولكن المحبة تجعل الإنسان صديقًا لله]
(القديس أمبروسيوس أسقف ميلان)

«قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ. لأَنَّهُ هَا هِيَ الظُّلْمَةُ تُغَطِّي الأَرْضَ وَالظَّلاَمُ الدَّامِسُ الأُمَمَ. أَمَّا عَلَيْكِ فَيُشْرِقُ الرَّبُّ، وَمَجْدُهُ عَلَيْكِ يُرَى. فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالْمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ» (إش 60: 1 - 3)

في بلد الحب كان حوار الحب ابتهاجًا وفرحًا بإشراقة نور الحب بتجسُّد ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح. الله محبة وبمحبته أخرج الأرض من العدم إلى الوجود ووهب الإنسان صورته ومثاله، ولكن الإنسان اختار الضعف وكسر وصية المحبة وأوجد نفسه خارج الفردوس بلا خلاص، ولكن الله لم يخلق ليَدين أو يَهْدِم، بل ليُخلِّص ويُخلِّد (يو 3: 17).

في قديم الأزمان أضاء نور الله على العالم الغارق في الخطية والحزن والضيق كما يقول إشعياء النبي: «الظُّلْمَةُ تُغَطِّي الأَرْضَ وَالظَّلاَمُ الدَّامِسُ الأُمَمَ. أَمَّا عَلَيْكِ فَيُشْرِقُ الرَّبُّ، وَمَجْدُهُ عَلَيْكِ يُرَى» (إش 60: 2).

فالله عندما خلقنا عَرِفْنا أنه يُحبنا، ولكن عندما تجسَّد وتأنَّس عَرِفْنا أنه يحبنا جدًّا ومحبته لا تُحد أو توصف بل تتحدَّى أفهامنا وعقولنا وكلَّ معارِفنا.

إن ميلاد السيد المسيح كان البداية الجديدة لحياة جديدة ممنوحة للإنسان ليبدأ عصرًا وعهدًا جديدًا في النور بعيدًا عن كل ظلام.

لقد سبق ميلاد السيد المسيح بستة أشهر ولادة القديس يوحنا المعمدان الذي جاء للشهادة ليشهد للنور. كان النور الحقيقي الذي يُنير كلَّ إنسان آتيًا إلى العالم، مقدِّمًا بُعدًا روحيًّا فائقًا لم يختبره أي إنسان من قبل، وكل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه (انظر: يو 1: 1 – 10).

في تلك الليلة المقدَّسة أضاء النور المبارك من ذلك الطفل الصغير في المذود البعيد في تلك القرية المغمورة والتي لم تعد الصُّغرى فيما بعد.

ومنذ ذلك التاريخ وعبر القرون ما زال وليد المذود يشعُّ بالنور والفرح ويجلب التعزية والبركة والنعمة لكلِّ مَنْ يريد وكلِّ مَنْ يشتاق خاصة من الذين ليلُ حياتهم الشخصية في ظلام دامس بسبب صراعات الخطية وتجاربها، وتردِّي البشر في الحروب والنزاعات والسقطات الأخلاقية وجفاف المشاعر الإنسانية، واضطرابات الأرض من زلازل وبراكين وفيضانات وحرائق والاحتباس الحراري المؤثِّر على المناخ، وبُؤَر العنف على مستوى الأسر والأفراد والجماعات، مع العواطف المنحرفة وانتشار الأنانية والنزاعات الاستهلاكية وتدمير البيئة والطبيعة والمخاوف النفسية ومشاعر القلق والإحباط والاكتئاب التي زادت من انتشار جائحة كوفيد 19 وتحوُّرات الفيروس ... وصار الإنسان بحاجة إلى نور وأمل ورجاء يُعيد إليه توازنه النفسي وسعادته الداخلية.

في أحداث الميلاد المجيد أشرق نور الحب على نماذج من البشر ربما تكون يا صديقي واحدًا مثلهم تتمتع بما تمتعوا به وتتحقَّق فيك استنارة الميلاد وتتجدَّد فيك المعاني التي تُشكِّل معالم هذا النور الحقيقي:

أولًا: الاستجابة لنور الحب:

وقد ظهر في طبيعة الرعاة الساهرين والذين رغم معيشتهم البسيطة جدًّا وحياتهم المحدودة إلَّا أنهم كانوا أمناء، لهم حضور واستقامة مع استعداد واستجابة لبُشرَى الملاك الذي ظهر لهم قائلًا: «لاَ تَخَافُوا فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ» (لو 2: 10). وجاءوا مسرعين حيث الصبي وأُمه العذراء والقديس يوسف ... ووجدوا استجابتهم في الحب الحقيقي في المذود المتواضع أمام المسيح الطفل.

يا صديقي هل لك هذه الاستجابة السريعة للوصية وكلمةِ الله وأن تقوم من كبوة الخطية نحو النور مقدِّمًا توبةً وعهدًا ورغبةً واشتياقًا لحياة النعمة والبركة؟

ثانيًا: السعي نحو نور الحب:

قد ظهر في طبيعة المجوس الزائرين القادمين من المشرق حيث بحثوا عن النجم الملائكي واستجابوا وحضروا عبر مسافات طويلة حاملين اشتياقًا قلبيًّا شديدًا لهذا الملِك الوليد، عالمين أنه لا سبيل لمعرفة الحقيقة إلَّا إذا ظهر رب الحقيقة وأعلنها بذاته كما كان يقول فلاسفة تلك الأزمنة.

لقد حضروا بالهدايا الذهب واللبان والمُر والتي تحمل المعاني الكثيرة، «فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا» (مت 2: 10). وتصرَّفوا بمهارة وحكمة في انصرافِهم وعودتِهم إلى بلادهم ...

صديقي هل لديك هذه الجدية والاجتهاد في الحضور الدائم عند قدمَي المسيح صانعًا الخير في حياتك وعلاقاتك ومقدِّمًا محبتك لكل أحد مضحِّيًا بالكرامة والامتيازات والحقوق والغِنَى بدافع المحبة للطفل يسوع؟ لا تتوانى واصنع الخير مهما كان حال العالم كما فعل أصحاب المذود الذين استضافوا مريم العذراء والقديس يوسف النجار بعد أن أُغلِقت كل الأبواب أمامهم.

ثالثًا: التمتع بنور الحب:

وما أجمل أقدام المبشرين بالخيرات: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لو 2: 14). وقد كان حضور الملائكة وظهورهم مُبهجًا ومُفرحًا وسط النور والتسبيح والسرور.

إن إشراقة نور الحب لا تمنحنا فقط النجاة من قُوَى الخطية المُهلكة والتي فينا والتي حولنا، بل تكشف لنا مقدار الجمال الذي في الحياة والطبيعة والبشر الذين على صورة الله ومثاله.

لقد رسم نورُ الحب لوحة جميلة من نجم المذود وملائكة السماء وأصوات التسبيح بل وكانت شخصيات الميلاد المجيد نجومًا مضيئةً ليس في زمانهم فقط بل وفي كل الأزمنة وهو الآن يستطيع أن يرسم لوحة حياتك بالنور والحب والفرح ما دُمْتَ جعلتَ قلبك نذورًا له.

تحكي لنا قصة قديمة عن طفل كان يراقب مشهد حضور الرعاة إلى المذود ثم نشيد الملائكة في السماء ثم زيارة المجوس إلى الطفل يسوع مقدِّمين هداياهم ... وقد وقف الطفل من هذه المشاهد خائفًا مرتجفًا من النور والتسبيح، ونظر من بعيد وجه أمنا العذراء متهلِّلًا وتَقدَّم بخطواتٍ وهو يُفكِّر ماذا يُقدِّم لهذا الطفل الجميل فهو ليس مثل الرعاة الذين قدَّموا الذبائح ولا مثل الملائكة الذين قدَّموا التسابيح ولا مثل المجوس الذين قدَّموا الهدايا ولا مثل الحيوانات التي قدَّمت أنفاسها الدافئة ولا مثل أصحاب البيت الذين قدَّموا المذود.

وقف الطفل متحيِّرًا ماذا يُقدِّم أمام المسيح في مذوده ...؟؟

وأخيرًا قال: لك أُقدِّم قلبي الصغير فهذا الذي أملكه فقط ووقتها ابتسم المسيح له وأضاء بنوره عليه فَرِحًا بتقدمتِهِ التي هي أعظم ما نُقدِّمه لله وهي فقط، التي تُفرِّح قلبَه.

البابا تواضروس الثاني

++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++

عزاء
نودِّع على رجاء القيامة راهبًا حقيقيًّا عاش الرهبنة في أصولها وفضائلها خاصة السكون والهدوء وهو الأب الراهب منسى المقاري.
نودِّعه نموذجًا فاضلًا كواحد من هؤلاء الذين لم يكن العالم مستحقًّا لهم.
خالص عزائي لجميعكم آباء دير القديس أبو مقار العامر وليعطنا الله أن نكمِّل حياتنا بالآخرة الصالحة.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis