من تاريخ كنيستنا
|
ملامح عامة
|
|
بعد نياحة الأب البطريرك يوأنس السادس، تدخل الكنيسة القبطية مرحلة جديدة من تاريخها بقدوم البابا كيرلس الثالث (المُسمَّى ”ابن لقلق“)، في أوائل القرن الثاني عشر.
لذلك نتوقف في هذا المقال لتصفُّح ومراجعة أهم الملامح العامة للقرن الثاني عشر والأحداث التاريخية التي أحاطت بالكنيسة القبطية في هذا القرن.
الحُكْم السياسي: الفاطميون ثم الأيوبيون:
لقد دخلت الكنيسة القرن الثاني عشر ومصر تحت حُكْم الفاطميين، الذين بدأ حُكْمهم على يد ”المعزِّ لدين الله“ من عام 968-969م، بالجيش الذي قاده ”جوهر الصقلِّي“ آتياً من شمال أفريقيا، ليدحر الحُكْم الأخشيدي للبلاد.
وقد عانى الأقباط على يد الخلفاء الفاطميين بطريقة تتراوح ما بين التسامح والتضييق حسب أخلاق الحاكم؛ بل إنه في خلافة الحاكم بأمر الله، عانى الأقباط كثيراً في بداية حُكْمه، ثم تراجع عن أحكام التضييق في أواخر أيامه.
وانتهى حُكْم الفاطميين بموت آخر ملوكهم واسمه ”العاضد“. وكان الأقباط في آخر عهد الدولة الفاطمية – ورغم كل ما حلَّ بهم – يتقلَّدون زمام الوظائف الحسابية التي وضعوا لها قواعد دقيقة لم يتمكن سواهم من ضبطها. وفي هذه الفترة كانوا قد أتقنوا اللغة العربية ووضعوا بها مؤلَّفات تشهد لهم بالمقدرة التامة، ونقلوا إليها مؤلَّفات كثيرة كانت مكتوبة باللغة القبطية أو باللغة اليونانية. وقد عرفت الحكومات قدرهم، فصارت تُلقِّب مُقدِّميهم وعلمائهم بألقاب التفخيم (كالرئيس، وهبة الله، والأمجد، والأسعد، والشيخ، ونجيب الدولة، وتاج الدولة، وفخر الدولة).
+ وكانت معظم الصنائع والفنون بأيديهم، حيث كان إتقانهم لها بالغاً منتهاه. ولا تزال بقايا صناعاتهم موجودة إلى الآن في الأديرة والكنائس القديمة بحارة زويلة وحارة الروم ومصر القديمة، وبالتحديد في الكنيسة المُعلَّقة. كما أنهم لم يهملوا علم الطب فاشتغلوا به، ونالوا منه حظّاً وافراً. كما اهتموا بعلم ”المواقيت“ والفَلَك وألَّفوا فيه مؤلَّفات واسعة وصل إلينا بعضها. كما كُلِّفوا ببناء الجوامع أيضاً، ومنها جامع ابن طولون.
+ وظلت الخلافة الفاطمية تنتقل من واحد إلى آخر بطريق الاغتيال وقَتْل الكُبراء لمدة طويلة، حتى تولَّى صلاح الدين كرسي ولاية مصر سنة 1161م، حيث ثبَّت مركزه. وبعد 10 سنوات انقلب على الخليفة الفاطمي ”العاضد“ وقتله، واستلم الخلافة بدلاً منه في شهر سبتمبر عام 1171م، وسُمِّي ”الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي“، وتم إسناد لقب ”الأيوبية“ إلى حُكْمه في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر.
+ وقد اتخذ صلاح الدين لنفسه كاتباً خاصاً من عائلة قبطية كريمة هي عائلة ”شرافي“. وكان أبوه من كبار رجال ديوان الخليفة العاضد، واسمه ”أبو المعالي“. فلما وثق به صلاح الدين واستأمنه على سرِّه، منحه لقب الشرف والرئاسة، فصار معروفاً باسم ”الشيخ الرئيس صفي الدولة ابن أبي المعالي“. وقد ظل يخدم صلاح الدين إلى يوم وفاته.
الحروب الصليبية وتأثيرها على الأقباط
في القرن الثاني عشر:
لقد بدأ الإعداد في الغرب لِمَا يُسمَّى بـ ”الحرب الصليبية“ ضد بلاد الشرق منذ أواخر القرن الحادي عشر. ففي نوفمبر سنة 1095، عَقَدَ بابا روما أوربان الثاني مجمعاً كنسياً في مدينة ”كليرمون فران“ الفرنسية، وأعلن أنه ينوي أن يساعد المسيحيين في الشرق، وقد ألقى في هذا المجمع خطاباً أوضح فيه ”أن بلاد الشرق تفيض لبناً وعسلاً، وأن القدس هي محور الكون، وهي منطقة فائقة الخصب بالمقارنة مع المناطق الأخرى في العالم، وأنها جنة ثانية“. وكانت هذه الكلمات موجَّهة إلى الشعوب الأوروبية الكادحة التي تأذَّت من الأزمات الاقتصادية في أوروبا في القرن الحادي عشر.
كما كانت كلمات البابا أوربان موجَّهة إلى الفرسان المُعدمين، حيث قال لهم: ”اذهبوا إلى الدرب المؤدِّي إلى القبر المقدس... انتزعوا هذه الأرض من الشعب "الكافر". افتحوها لأنفسكم“. والذي أيَّد نداء البابا أوربان هو الراهب بطرس الناسك الذي كان يُلهِب الفلاحين المتضورين جوعاً والفرسان والإقطاعيين للتطوُّع في هذه الحرب. وقد كان وعظ هذا الراهب في القسم الشمالي الشرقي من فرنسا، ثم في ألمانيا، بتكليف من البابا أوربان. وهكذا بدأت الحملات الصليبية كنوع من الحج للأراضي المقدسة بأربعة عشر ألفاً من الفلاحين، أما الفرسان فبدأوا في الحج في أغسطس عام 1096م.
+ ولكن هذه الحملات التي كان هدفها ”القدس“، تحوَّلت إلى غزو مسلح للبلاد الشرقية: نيقية في بيزنطة، وأنطاكية في سوريا؛ ثم وصلوا إلى دمياط والفرما وفوه في مصر، حيث قضوا على كل سكانها (مسلمين ومسيحيين)، ولم ينجُ إلاَّ الذي استطاع الهرب، حتى أن أسقف فوه لم يجد له شعباً يرعاه، فتوجَّه إلى الأب البطريرك يوأنس السادس، الذي أرسله إلى إثيوبيا كمطران لها، ثم عاد منها بعد أحداث دامية(1).
+ وقد حاول الصليبيون الاستيلاء على مصر، لكنهم فشلوا، ولشدة غيظهم من عدم مساعدة الأقباط لهم، أصدروا قانوناً بمنع الأقباط في مصر والسودان من زيارة القبر المقدس، وقد برَّروا ذلك بأن الأقباط هراطقة. أما من جهة الأقباط، فقد أدركوا أن أسقف روما أصدر أمراً إلى الصليبيين بضَم مسيحيي البلاد التي يفتحونها إلى بطريركية اللاتين في أورشليم.
+ ولكن، من جهة أخرى، فإنه لما رأى الحُكَّام في مصر توالي هجوم الصليبيين على مصر وارتكابهم الفظائع في كل بلد يدخلونها؛ نفروا هم والمسلمون من كل مَن يُسمَّى ”مسيحي“ مهما كان مذهبه وجنسيته، ووقع الأقباط من جراء هذه الحروب تحت سخط مواطنيهم. كما نال الأقباط من جراء الحروب الصليبية شرٌّ آخر، وذلك أنه لما طالت مدة الحرب، احتاجت الحكومة إلى نفقات جسيمة، ففرضوا جزية عظيمة على الأقباط، ما جعل بعضهم يضطر إلى بيع أملاكه لدفع المطلوب منه. كما وشى للخليفة اثنان من الكُتَّاب في ديوان الخليفة، أنَّ الأقباط يُرسلون سرّاً إلى الفرنجة أموالاً من الكنائس، فغضب عليهم وأَمَرَ بضم أموال الكنائس لبيت المال. لكن هذَيْن الواشيَيْن قام عليهما الجنود وقتلوهما شر قتلة فيما بعد.
+ على أن الحملات الصليبية التي استمرت على بلاد الشرق خلال القرن الثاني عشر فشلت، وفقدت قوتها في غضون 200 سنة، إلاَّ في حملة غزو الإسكندرية عام 1365م في عهد السلطان الأشرف شعبان (كان طفلاً لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره).
+ وهكذا عانى الأقباط خلال القرن الثاني عشر من كِلاَ الغازين والمواطنين من جراء هذه الحروب الصليبية.
كنيسة ”الجنود المجهولين“:
بالرغم من ندرة السجلاَّت التاريخية في القرن الثاني عشر مِمَّا هو متوفر لدينا في مصر، إلاَّ أنه يظهر لنا بين الحين والآخر ما يُظهِر الجنود المجهولين الذين عاشوا في مصر في الكنيسة القبطية، ما يفتح للباحث أبواباً لرؤية بعض صور الحياة التي عاشها الأقباط المجاهدون في هذا القرن.
+ من هذه الأمثلة نقف أمام شخصية جبَّارة من تلك الشخصيات التي أنجبتها كنيستنا القبطية، هو الأنبا ميخائيل مطران دمياط في القرن الثاني عشر. هذا الأب كان فناناً، فرسم تسعين صورة للبشائر الأربع تشرح الأحداث المذكورة في الأناجيل مثل: زيارة المجوس، وقتل هيرودس لأطفال بيت لحم بينما ينشغل الكهنة اليهود في قراءة النبوَّات عن المسيح الملك المنتظر، ثم عودة المجوس من طريقٍ آخر، كل هذا في لوحة واحدة. وهذه المجموعة من الصور مرسومة على الطريقة الفرعونية: أي على صف واحد بلا فاصل بين صور الأحداث بعضها بالبعض. وقد قضى الأنبا ميخائيل سنتين في إتمام رسم هذه الصور التسعين، لأن المخطوط الذي يشتمل عليها تسجَّل في آخره تاريخ كتابته: من سنة 1179-1181م. وهذا المخطوط ضمن تراثنا الأدبي القبطي الموجود في الخارج، بالمكتبة الأهلية بباريس تحت رقم ”قبطي - 13“. ومن الشائع أن الملك لويس التاسع كان قد أخذه خلسة حين عاد إلى وطنه بعد أن فشل في حملته الصليبية التي وقع فيها أسيراً في أيدي المصريين سنة 1250م.
كما ترك لنا الأنبا ميخائيل عدداً من المواعظ والتفاسير للكتاب المقدس. ولا تزال الرسائل التي تبادلها مع ”أبي صالح الأرمني“ باقية إلى الآن.
ومع كل هذا التراث الذي خلَّفه لنا هذا الأسقف الفنان، لا توجد إشارة إلى تاريخ ميلاده، ولا أين ترهَّب، ولا متى نال الأسقفية. وقد علَّق المستشرق الفرنسي ”رينودو“ على هذه الأعمال، وبالأخص مخطوط البشائر الأربع بهذه الكلمات: ”فهو جدير حقّاً بالكنيسة التي خدمها“.
جنود مجهولون من العلمانيين
شعب الكنيسة:
1. الأسعد أبو الخير: واسمه جورجي بن أبي وَهَب الشهير بابن الميقاط. اشتهر بين عظماء الأقباط في عهد الخليفة العاضد (آخر خلفاء الفاطميين). تعرَّض له الوزير ”شاور“ الذي أحرق مصر القديمة، وادَّعى على الأسعد بأن له علاقة بعساكر الصليبيين، وأنه يُخابرهم سرّاً. وبناءً على ذلك، قبض عليه ووضعه تحت العذاب حتى مات. وهو رأس لعائلة اشتهر أمرها فيما بعد، منها ”أبو الفتوح بن الميقاط“ الذي ترأَّس ديوان الجيوش في أيام الملك العادل.
2. سيدة قبطية من مصر القديمة اسمها ”ترفه“، عاصرت الأب البطريرك يوأنس السادس. كانت هذه السيدة واسعة الثراء، فقامت ببناء كنيسة على اسم القديس أبا نوفر السائح. كما شيَّدت ديراً للراهبات أوقفت عليه الأراضي الزراعية ما يكفي للإنفاق عليه. ونقشت اسمها على لوح خشبي وضعته فوق الباب الذي تدخل منه النساء إلى الكنيسة. كما قامت بالصرف على نَسْخ عدد كبير من الكتب الكنسية والأسفار المقدسة، وهبتها لهؤلاء الراهبات ليستخدمنها في حياتهن الخاصة وفي العبادة داخل الكنيسة.
3. أبو البركات: هو ابن ”أبي الليث“، كان رئيس ديوان المجلس. وقد وشى به لدى الخليفة بعض الحاسدين بأنَّ له مرتَّبات باهظة، وأنه يختلس أموال الحكومة، ويستخدم أقاربه ويُفضِّلهم على غيرهم. فلم يسمع لهم الخليفة، وثبَّته في منصبه، إلاَّ أنه قُتِلَ في نهاية المطاف. +