بحث تاريخي


دير راهبات السيدة العذراء مريم
بحارة زويلة
(1)

الأستاذة الدكتورة/ شيرين صادق الجندي
أستاذ الآثار والفنون القبطية
ورئيس قسم الإرشاد السياحي بكلية الآداب - جامعة عين شمس

(الشكل رقم 1) أيقونة خشبية رقم 3367 للسيدة العذراء تحمل الطفل المسيح. المتحف القبطى بالقاهرة.

يُعتَبر دير العذراء للراهبات بحارة زويلة واحدًا من أقدم الأديرة الأثرية للراهبات بالقاهرة (الشكل رقم 2-3)، والذى تشرَّف بمجيء العائلة المقدسة في القرن الأول الميلادي وفقاً للتقليد القبطي الأرثوذكسي. ويقع هذا الدير على بُعـد بضعــة أمتار في مواجهة مدخل شارع زويلة. ويجاور الدير من الجهة الغربية الكنيسة الأثرية للقديسة مريم العذراء والتي كانت مقـرًّا بابويًّا لحوالي 23 بطريـرك قبطي على مدار ما يقرب من 360 سـنة من 1300 إلى 1660م. ويضم هذا الدير الهام مجموعة كنائس القديسة العذراء مريم، ومار جرجس، وأبي سيفين والقديس صليب الجديد، إضافة إلى دير مارجرجس.

(الشكل رقم 2) المدخل الرئيسي لدير العذراء للراهبات بحارة زويلة (تصوير أ.د./ شيرين صادق الجندى، يناير 2012)

(الشكل رقم 3) لوحة رخامية عليها اسم الدير على يمين المدخل الرئيسي لدير العذراء للراهبات بحارة زويلة (تصوير أ.د./ شيرين صادق الجندى، يناير 2012)

تاريخ الدير:

على الرغم من أن المؤرخ الشهير أبو المكارم والذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي لم يذكر هذا الدير، إلاَّ أن تاريخ بناء هذا الدير يرجع إلى منتصـف القـرن الرابع عشر أو إلى أوائل القرن الخامس عشر الميلادي. ويُعتبر البابا متاؤس الأول Matthaeus I الـ 87 (1378 – 1408م) من أهم الآباء البطاركة الذين ساهموا في تجديد هذا الدير الهام حيث أضاف جرسًا من النحاس في برج البطريركية بكنيسة السيدة العـذراء بحارة زويلة، لينبه به جموع الأقباط إلى مواقيت الصـلاة المختلفة. فكان كل من يسـمع رنين هـذا الجرس يُسرع للصلاة. ويعتقـد البعض أن هذا الجرس موجـود حاليًّا في دير العذراء للراهبات، فليس للكنيسة جرس خاص بها؛ بل إن هذا الجرس الأثري الموجود بالدير يخصُّ الكنيسة والدير معًا. وراهبات الدير مسئولات عـن دق الجرس أثناء الخدمات الطقسية الخاصة بكنيسة العذراء الأثرية.

كما كان هذا الدير كذلك مقرًّا بابويًّا لآخرين من بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية، فكان مقرًّا للبابا مرقس السادس Mark VI رقم 101 (1646-1656م)، والذي جـدد عدة مباني بالدير وبالأخص ترميم قاعة الصلاة في سنة 1645م. وبالمتحف القبطي بالقاهرة مخطوطة رقـم 312 طقـس، ذُكر بها أن البابا مرقـس السادس شيَّد قاعة للصلاة في الدور العلوي بكنيسـة العـذراء مريم بحارة زويلة.

كما انتعشت عمارة هذا الدير وغيره من الأديرة القبطية للراهبات بصفة عامة، وتطورت فيه حركة التعليم في عصر البابا يوساب الثانى Jusab II رقم 115 (1946-1956م). فعندما ظهرت مشكلة المياه الجوفية وغمرت أرضية الكنيسة الأثرية بحارة زويلة سنة 1946م، طلب الأرخن متري خريستو من البابا أن يسمح له بالصلاة في هذه القاعة ككنيسة للشعب. وبعد أن وافق البطريرك، أقام الأرخن هيكلاً ومذبحًا. وأدى الأقباط الشعائر الدينية بها إلى أن انتهت الصبة الخرسانية لأرضية الكنيسة ثم أعيدت الصلاة فيها من جديد. ورفعت رئيسة هذا الدير حينذاك المذبح واستعملت القاعة كقاعة اجتماعات للراهبـات مرة أخرى.

وفي عهد البابا كيرلس السادس Pope Cyril VI رقم 116 (1959-1971م) (الشكل رقم 4)، تطورت حياة الديرية المعاصرة في دير العذراء للراهبات بحارة زويلة حيث اختيرت الأم مريم رئيسة للدير وارتدت الإسكيم الرهباني. وكانت قد ترهبنت من قبل في دير القديس مرقوريوس أبي السيفين بمصر القديمة. وقبلت الأم مريم بنات متعلمات جدد بالدير للنهـوض به بعد أن كان يسـوده الضعــف التعليمي والثقافي الملحوظ في ذاك الوقت. وتحولت قاعـة الاجتماعات الخاصة بالراهبات المشار إليها بأعلاه إلى كنيسـة خاصـة براهبات الدير حيث مارسن كل صلواتهن ومناسباتهن الطقسـية، كما تمت رسامتهن بكنيسة السيدة العذراء الأثرية. وترجع أقدم أيقونات الدير الأثري إلى القرن الرابع الميلادي.

(الشكل رقم 4) البابا كيرلس السادس (1959-1971م)

وفي عهد البابا شنودة الثالث Shenute III رقم 117 (1971-2012م)، قام قداسته بأول زيارة لدير العذراء للراهبات بحارة زويلة وكان لا يزال أسقفًا للتعليم، فكانت له جلسة روحية مع الراهبات وذلك عام 1971. كما أنه حضـر خلال توليه مرات عـدة سيامة بعض الراهبات وتفقد أحوال هذا الدير.

وشهد قداسة البابا تواضروس الثاني فى 6 يونية 2014م تدشين كاتدرائية السيدة العذراء والقديس يوسف النجار Saint Joseph the Carpenter يرافقه مجموعة من الآباء الأساقفة. كما حضـر قداسته في 18 ابريــل 2016م سيامة البعض من طالبات الرهبنة في كاتدرائية السيدة العذراء والقديس يوسف النجار ومعه لفيف مـن الآباء الأساقفة ورئيسات أديرة الراهبات وبعـض الراهبات من أديرة قبطية أخرى. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن قداسته قد أقام قداس اليوم الأول مـن صوم يونان يـوم الاثنين 29 يناير 2018م للاطمئنان على الراهبات ولتفقـد أحوال الدير بعد نياحة الأم مريم رياض رئيسة الدير، وأيضًا في عيد التجلي يوم الاثنين 19 أغسطس 2019م. وتكرر حضور قداسته لنفس الدير لسيامة إحدى راهباته وهي الأم باسـيليا رئيسة للدير. وقد أشار إلى عمارة هذا الدير ومبانيه المختلفة بعض الباحثين والمستشرقين والرحالة الذين وفدوا إلى مصر أمثال A.J. Butler فى عام 1884و A.M. Kosegarten في سنة 2000 وغيرهم.

كنيسة العذراء الأثرية:

تُعتبر هذه الكنيسة من أهم الكنائس في هذه المنطقة الأثرية الفريدة. وتقع كنيسة العذراء مريم بحارة زويلة أسفل مستوى الشارع بحوالى 4م مما كان يجعلها من فترة إلى أخرى مملوءة بمياه الرشح مع مياه المجاري ومما زاد من صعوبة معالجتها. ويقع مدخل الكنيسة فى الجهة الجنوبية.

وتُعتبر هذه الكنيسة من أقدم الكنائس الأثرية في مصر (الشكل رقم 5-6). وتخطيطها المعماري بازيليكي، أي أن المدخل يؤدي إلى مبنى مستطيل. يوجد به صالة مستعرضة أو رواق مستعرض narthex في الناحية الغربية، يليه ثلاثة أروقة متوازية أعرضها وأكثرها اتساعًا هو الرواق الأوسط، ويفصله عن الرواقَين الشمالي والغربي مجموعة من الأعمدة الحجرية. ثم يصل الزائر بعد ذلك إلى خورس الكنيسة ويليه ثلاثة هياكل شرقية في منتصف كل منها مذبح ثم شرقية في الحائط الشرقي.

وفي الرواق الأوسط الكبير، يوجد الإنبل الرخامي للكنيسة وهو واحدٌ من أجمل ومن أقدم التحف الحجرية فى الكنائس والأديرة القبطية في مصر(الشكل رقم 5). ويرجع هذا الإنبل إلى القرن التاسع عشر الميلادى وبالتحديد إلى سنة 1884م. ويرتكز هذا الإنبل على أربعة أعمدة ارتفاع كل منها ما يقرب من 193 سم. ويعلوه لوحة خشبية على شكل نسر، ربما استُخدِمت كمنجلية ليوضع عليها الكتب الدينية وفقًا لِمَا أشارت إليه مريم ويصا في مقالتها المنشورة في Le Monde Copte في عام 1997. كما تزينه بعض الزخارف النباتية، لاسيما الزهريات المنقوشة نقشًا بارزًا. ومن المعروف أن النسر كان رمزًا للعلو والرفعة والقوة والسلطة في مصر القديمة. وفي الفن القبطي، يُعتبر النسر رمزًا للقديس يوحنا أحد كتبة الأناجيل الأربعة. كما استُخدِم النسر كذلك في الفن القبطي في بعض الحالات ليُرمز به إلى السيد المسيح. ومن ثم، ظهر شكل النسر ناشرًا جناحيه على كثير من شواهد القبور الحجرية والخشبية، وأيضًا كثير من المنسوجات القبطية المحفوظة حاليًّا في المتحف القبطي بالقاهرة وغيره من المتاحف الأثرية القومية والعالمية.

ومنذ عدة سنوات، تم افتتاح معرض فني ضم كثيرًا من الأيقونات الأثرية التي تم من خلالها توثيق تاريخ هذه الكنيسة الأثرية ورحلة العائلة المقدسة خلال احتفالية وزِّعت فيها الهدايا التذكارية وكُرِّم فيها عدد من المسئولين.

(الشكل رقم 5) إنبل كنيسة العذراء الأثرية من الداخل (تصوير أ.د./ شيرين صادق الجندي، يناير 2012)

(الشكل رقم 6) كنيسة العذراء الأثرية (تصوير أ.د./ شيرين صادق الجندي، يناير 2012)

قبيلة زويلة واسم الحارة المُشيَّد بها كنيسة السيدة العذراء

تُعرف الحارة المشيَّد بها كنيسة العذراء الأثرية باسم قبيلة جاءت إلى مصر بصحبة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله أبو تميم معد من بلاد المغرب العربي. ففي سنة 969 ميلادية، قام القائد جوهر الصقلبي - وكان أصله من صقلب في شمال سيبيريا - القادم من المغرب بتأسيس مدينة القاهرة لتكون رابعة عواصم مصر الإسلامية، حيث قال المؤرخ المملوكي تقي الدين المقريزي: "إن هذا القائد قد قسَّم المدينة إلى حارات أسماها المقريزي (خطط) أي مجموعة من الأحياء الآهلة بالسكان. وكانت هناك قبيلة مغربية من قبائل البربر قد نزحت إلى مصر مع القائد جوهر الصقلبي وتدعى قبيلة زويلة، أقامت هذه القبيلة بالمساحة المزروعة بهذه المنطقة (حارة زويلة) إلا أنها تركت الدير على ما هو عليه". كما أشار تقي الدين المقريزي إلى أن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بحارة زويلة يرجع تاريخ تأسيسها إلى ما قبل الفتح العربي لمصر بحوالي مائتي عام وبالتقريب فى عام 352 ميلادية. ويُعتقد أن هذا تاريخ غير دقيق.

رحيل أفراد قبيلة زويلة من القاهرة

وفي العصر الأيوبي، وبالتحديد سنة 67 هـ / 1171م، قام القائد صلاح الدين يوسف بن أيوب بالقضاء على بقايا الفاطميين فى مصر وشتت أنصارهم فلم يبق منهم أحد وتشتتت معهم قبيلة زويلة. وبدأ الأقباط في الاستقرار بهذا الحي حيث كان مشيَّدًا به كثير من كنائسهم.

ويؤكد لنا التقليد الكنسي في كل من مصر وأثيوبيا بأن العائلة المقدسة أثناء مجيئها إلى مصر مرت بهذه الكنيسة خلال رحلتها إلى صعيد مصر. ونظرًا لأن كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة تتمتع بموقع تاريخي متميز، فهي بحق أقدم كنائس القاهرة الفاطمية، الأمر الذي ربما يؤكد زيارة العائلة المقدسة لهذه البيعة المباركة.

وشُيِّدت كنيسة السيدة العذراء هذه قبل أن يقوم جوهر الصقلبي بتأسيس مدينة القاهرة بحوالي ستة قرون. وذكر لنا أميلينو بأن هناك مخطوطة قبطية محفوظة حاليًّا في المكتبة الأهلية بباريس Bibliothèque Nationale de France à Paris قد ورد بها أسماء كنائس في مواقع مختلفة بالقاهرة لاسيما قاهرة المعز ومنها كنيسة السيدة العذراء مريم الأثرية بحارة زويلة. كما ورد اسم كنيسة العذراء الأثرية بحارة زويلة بمخطوطة اللورد "كوفورد" باسم كنيسة والدة الإله مريم بحارة زويلة. ونظراً لقدم ولأهمية هذا الأثر، سجل له المؤرخون المعاصرون بعض التفاصيل الهامة، موضحين من خلال كتاباتهم قيمة هذا الكيان الأثري الذي ظل صامدًا حتى الآن متحدياً عوامل الزمن، قاهراً مكامن الوهن، مقاوماً ذلك الهجوم الذي يعتصره من المياه الجوفية.

1. وصف أبو المكارم لكنيسة العذراء الأثرية:

في مؤلفه "كنائس وأديرة مصر"، حدثنا الشيخ المؤتمن أبو المكارم سعد الله بن جرجس وكان قد دونه ما بين عامي 893ش – 920ش حيث قال: "إن هذه الكنيسة قد شهدت تجديدًا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي اشترك فيه أبو المكارم والأرشيدياكون أبو سعيد ابن جمال الكفاءة وغيرهما"، ومن تاريخ مصر، يتضح لنا أن هذه الفترة هي فترة حكم كل من الخليفة الفاطمي الحافظ والظافر حيث سمح كل منهما بترميم بعض الكنائس التي كانت في حاجة إلى ترميم.

كما أشار أبو المكارم إلى الزخارف التي وجدت بكنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة في عصره قائلاً: "إنه كان في جاق هذه البيعة صورة مخلصنا يسوع المسيح له المجد في العرش والأربعة وجوه حاملته ليس لها شكل ولا مثال في جميع ما صُوِّر في المسكونة وهي موجودة حتى الآن إلاَّ أنها تحتاج إلى ترميم".

كما ذكر لنا هذا المؤرخ الشهير أنه على يسار الداخل إلى كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة، كانت توجد ثلاث أيقونات واحدة منها كانت للقديس مارجرجس وقد رسمها الراهب مقارة. ونظراً لارتباط كنيسة السيدة العذراء الأثرية بدير راهبات السيدة العذراء بزويلة، فتجدر الإشارة إلى أن أول إشارة تاريخية مسجلة تؤرخ لدير الراهبات بحارة زويلة هي التي وردت في "الخطط المقريزية" للعلامة تقي الدين المقريزي المتوفي سنة 1442م.

2. وصف تقي الدين المقريزي لكنيسة العذراء الأثرية:

في مؤلفه، أشار تقي الدين المقريزي إلى كثير من الآثار التي عاصرها في حياته. ومنها الكنائس القبطية والتي اكتفى بذكر أسمائها. وقليلاً ما سجل وصفًا وإشارة عن هذه الكنائس مثل كنيسة السيدة العذراء الأثرية حيث قال: "إنها عظيمة عند النصارى" أي المسيحيين المصريين، كما أكد هذا المؤرخ صراحة أن هذه الكنيسة قد تهدمت فيما بعد مع غيرها من الكنائس الأخرى.

(يتبع)

********************************************************************************************************************************************************

............................................دير القديس أنبا مقار ......................................... صدر حديثًا كتاب ................................. (كود 673)

الطريق إلى ملكوت الله

للأب متى المسكين

............................................232 صفحة (من القَطْع الكبير- تجليد فاخر) ............................. الثمن 60 جنيهًا

* * *

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis