الافتتاحية


رسالة تعليمية هامة(1)

للأب متى المسكين

* [صورة واضحة لتدبير مقاصد الله الأزلية من خِلقتنا، أي على أية حالة تكون خلقتنا؟ وبأية صورة سقطنا من مقاصدنا؟ ثمَّ كيف عالج المسيح سقوطنا، والمستوى النهائي الذي صرنا إليه؟ وما هو مستقبل حياتنا حسب مقاصد الله الأُولى؟]

كان للقديس بولس الرسول مواهب روحية فائقة جدًّا، فقد وهبه الله الكثير من الاستعلانات الخاصة بخلقة الإنسان في فكر الله في الأزلية، أي قبل خلقة العالم والإنسان.

أولًا: سنكتفي هنا بتوضيح ”القصد النهائي“ الذي كان في فكر الله في الأزلية كما استعلنه بولس الرسول، ثمَّ نأتي على خلقة الإنسان وما تسبَّب فيه آدم من تعطيل قصد الله النهائي من خلقة الإنسان.

يوضِّح القديس بولس الرسول في رسالته إلى كنيسة أفسس الأصحاح الأول، الصورة التي كانت في تدبير الله من جهة قصده النهائي من خلقتنا نحن البشر هكذا: (ونرجو ملاحظة أن ذِكْر الإنسان جاء بالجمع: ”اختارنا“): «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويَّات في المسيح، كما اختارنا فيه (أي في المسيح) قبل تأسيس العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة» (أف 1: 4،3).

ومعنى الكلام بحسب ما أُعلِن لنا من جهة يسوع المسيح هو كيف تجسَّد ابن الله في هيئة إنسان؟ وكيف أنَّ هذا كان أمرًا واضحًا في تدبير الله منذ الأزل؟ وهذا هو السبب المباشر الذي به نلنا كل بركة روحية في السماويَّات، لأننا سنُخلَق على أساس أن يحلَّ ابن الله فينا بالجسد، وهكذا نصبح ”في المسيح“ أقرب المقرَّبين إلى الله وسط كل الخلائق الروحية. وبناءً عليه، يقول بولس الرسول إننا سنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في محبة الله، وعلى أساس هذه المحبة سيتحدَّد موقعنا من الله في نهاية الزمان أمامه، أي أمام الله. أي أنَّ خورس البشرية تأسَّس في تدبير الله منذ الأزل(2) وقبل خلقة العالم ليكون موقعه أمام الله في المسيح وبحالة من القداسة والمحبة.

ثانيًا: ولكن بسقوط آدم من مخافة الله بطاعته للشيطان، فَقَدَ الطريق إلى مقاصد الله الأزلية: أي أن يكون في المسيح، وأن يكون مُبارَكًا، وأن يكون موضعه أمام الله! وفَقَدَ إمكانية أن يكون مقدَّسًا وبلا لوم في المحبة أمام الله. وبابتعاده عن نور الله ومفارقة حضرته بالطرد، صار في أرض العالم خاضعًا تحت سلطان رئيس عالم الظلمة، عبدًا لأركان العالم الضالة من آلهة كاذبة وأصنام.

ثالثًا: انظر رسالة غلاطية الأصحاحين الثالث والرابع؛ وفيها نفهم أنَّ الله قد تحنَّن وأدخل الإنسان تحت ناموس موسى باعتبار أن الناموس يكون وَصِيًّا عليه إلى أن يبلغ سِنَّ الحرية. وظل الناموس هكذا مؤدِّبًا إلى أن جاء المسيح ابن الله وفكَّ عبودية الإنسان من العالم ورفعه من تحت وصاية الناموس وتأديبه وأدخله في حالة التبنِّي، وهذا هو الهدف: ” التبنِّي لله“ الذي كان قائمًا في مقاصد الله الأزلية من خلقة الإنسان، وذلك بأن تجسَّد ابن الله في جسد الإنسان واتحد به، فاتحد الإنسان بابن الله.

ولمَّا صُلب المسيح صُلب الإنسان معه وفيه وقَبـِلَ الموت عقوبة الخطية وعصيانه لله؛ كما قَبـِلَ أيضًا اللعنة مع المسيح على الصليب، لأنَّ كل مَنْ يُعلَّق على الخشبة بسبب مخالفته للناموس يُحسب ملعونًا (تث 23:21؛ غل 13:3). وهكذا أكمل المسيح الموت ثمن عصيان الإنسان لله، وقَبـِلَ اللعنة ثمن عصيان الإنسان للناموس؛ فانفكَّ الإنسان من العالم والناموس معًا وصار حُرًّا وابنًا لله في المسيح، وتهيَّأ بقيامة المسيح من الموت وصعوده إلى السماء ليأخذ في المستقبل كمال مقاصد الله الأُولى من جهة الإنسان في الأزلية، ليقف أمام الله ابنًا في المسيح في قداسة وبلا لوم قدَّامه في محبة الله.

رابعًا: قلنا إنَّ الناموس لَمَّا جاء، جاء ليكون وصيًّا. وهنا يأتي السؤال: وصيًّا على مَنْ؟ لأن الوصي يكون وصيًّا على وَرَثَة، فمِن أين أتتنا الوراثة؟

الوراثة أتتنا جميعًا من إبراهيم ”بالإيمان“ بالله، لأن إبراهيم أخذ وعدًا من الله لما آمن بالله أن يكون أبًا لجميع الأُمم؛ أي أبًا لكل مَنْ ”يؤمن بالله“، هذا يكون ابنًا لإبراهيم أول مَنْ آمن بالله، وصار أبناء إبراهيم هم اليهود بنو إسرائيل لأنهم آمنوا بناموس موسى الذي عرَّفهم بالله.

ولكن نحن لسنا يهودًا ولم نؤمن بالناموس، ولكن لما وُلِدَ المسيح ابن الله وصُلب من أجل كل العالم ومات وقام: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16)؛ آمنا نحن بالمسيح أنه مات وأنَّ الله أقامه من بين الأموات. فهكذا حُسِبَ لنا إيماننا بالله وبقيامة المسيح تمامًا على مستوى إيمان إبراهيم بأنَّ الله قادر أن يُقيم من بين الأموات(3).

وهكذا صرنا أولاد الله كما يقول القديس يوحنا: «أمَّا كل الذين قبلوه (قبلوا أن المسيح ابن الله) فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، الذين وُلِدُوا ليس مـن دم، ولا مـن مشيئة جسد، ولا مـن مشيئة رجل، بـل مـن الله» (يو 1: 13،12).

وهكذا صرنا أولاد الله، وهكذا صرنا مع المسيح ورثة لله. وهكذا لمَّا جاء المسيح أعطانا التبنِّي. وإن كنَّا أبناءً فنحن ورثة لله. وبهذا خرجنا من تحت عبودية الخطية والعالم؛ بل وخرجنا من حتمية الخضوع للناموس ولعنته كمؤدِّب للقاصرين، إذ صرنا بالمسيح وفي المسيح أحرارًا وأبناءً لله، وورثة وبلا لوم قدَّامه في المحبة، لتسبيح مجد نعمته في المحبوب.

(الاثنين 16/7/2001)

__________________________________

(1) نُشِرَ هذا المقال لأول مرة في عدد سبتمبر عام 2001م.

(2) ويعود القديس بولس ويكرِّر هذه الحقيقة في الرسالة الثانية لتيموثاوس، ويذكر أنَّ ذلك كان قبل الأزمنة الأزلية: «الذي خلَّصنا ودعانا دعوة مقدَّسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطِيَت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهِرَت الآن بظهور مخلِّصنا يسوع المسيح، الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل» (2تي 1: 10،9).

(3) وقد سجَّلنا إيماننا وختمناه بالمعمودية بالمسيح:
+ «لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهوديٌّ ولا يونانيٌّ. ليس عبدٌ ولا حرٌّ. ليس ذكرٌ وأُنثى، لأنكم جميعًا واحدٌ في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذًا نسل إبراهيم، وحسب الموعد ورَثَةٌ» (غل 3: 27-29).
+ الله اختار إسرائيل شعبًا له = امتياز بدون استحقاق، الله اختارنا شعبًا له في المسيح = امتياز بدون استحقاق أيضًا.
+ إسرائيل لم يثبت في الامتياز! فرُفض؛ فهل نثبت نحن فنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة؟
+ «مبارك الله ... الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويَّات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم ...» (أف 4:1).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis