الاستشهاد


من الموت إلى الحياة
(1يو 3: 14)
(3)


تكملة لما سبق نشره في أعداد (مايو 2021، صفحة 9؛ يونيه 2021، صفحة 46):

«وَأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ» (يو11: 15):

مما يُتَعجَّب له جدًّا في رؤيا استفانوس أنه لما رأى يسوع في مجد أبيه, رآه قائمًا (واقفًا) عن يمين الله, واستفانوس وهو ممتلئٌ من الروح القدس يؤكد هذا الكلام مرتين بالرؤيا وبالقول. وفي رأينا أن هذا المنظر نادر جدًّا, لأنه دائمًا ما يُذكر في كل الكتاب أن ابن الإنسان جالسٌ عن يمين الله. فمنذ القديم يقول المزمور «قَال الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ» (مز 110: 1). وفي إجابة يسوع نفسه يقول: «قَال لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ» (مت 26: 64). «فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ» (مر 14: 62). «‎فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ" (مت 19: 28). «مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لو 22: 69). ويصف القديس مرقس صعود الرب فيقول: «ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (مر 16: 19). حتى الرسائل أيضًا سلطت الضوء مرارًا على جلوس المسيح عن يمين الله. ففي رسالة كولوسي: «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (كو 3: 1). ورسالة أفسس: «‎الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ» (أف 1: 20). ورسالة العبرانيين تصفه وتقول: «الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي» (عب 1: 3). «وَأَمَّا رَأْسُ الْكَلاَمِ فَهُوَ: أَنَّ لَنَا رَئِيسَ كَهَنَةٍ مِثْلَ هذَا، قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الْعَظَمَةِ فِي السَّمَاوَاتِ» (عب 8: 1). «وَأَمَّا هذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (عب 10: 12). «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ» (عب 12: 2). كما أن المسيح أيضًا يُوصَف في رؤيا يوحنا بأنه الجالس: «ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ» (رؤ 14: 14).

وجلوس الله على عرشه إشارة بديعة إلى ملكوته وسيادته وسلطانه الذي لن يزول. وفي جلوس المسيح عن يمين الآب إعلانٌ عن مساواته مع الآب, وتحقيق لتجسده وقيامته وصعوده, وتعبير عن ألوهيته وملوكيته وسلطانه وتكميله لعمله وأحقية قضائه ودينونته. أما قيام المسيح هنا عن يمين الآب ففيه استحسان وتفاعل واستقبال وترحيب وتهليل وفرح لرئيسِ كهنتنا - الذي قد اجتاز السموات كسابق لأجلنا - بقدوم شهيده(1) , كملك يرحب ويكرم ويتوج جنوده المظفَّرين. إنه يُظهر تحنن رحمة رئيس جنسنا - الذي تألم لأجلنا - إذ يُمسِك نسل إبراهيم, ويتضايق في ضيقنا, ويرثي لضعفاتنا, ويعين المجربين, ويخلِّص إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، «إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عب 7: 25). وفيه إعداد وتهيئة لجلوس استفانوس معه في عرشه كوعده الصادق: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤ 3: 21).

كانت هذه الكلمات: «وَابن الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ» (أع 7: 56)، مألوفة جدًّا لدى رؤساء الكهنة, فهناك سجينٌ آخر قد مَثَلَ أمام نفس المحكمة ووجهت إليه نفس تهمة استفانوس ألا وهي التجديف, وكان ذلك السجين هو الرب يسوع نفسه. ولنتذكر نفسَ المشهد، اسمع مرقس الإنجيلي يقول عن يسوع: «أَمَّا هُوَ فَكَانَ سَاكِتًا وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ. فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟ فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ» (مر 14: 61-64). كان هذا ما اعتبروه التجديف الأخير الذي سمعوه من يسوع, ومن ثَمَّ قتلوه. مع أنه لم يكن أكثر من تذكرة لنص النبوات (دا 7: 13, مز 110: 1).

هنا استفانوس يقدِّم نفس ادعاء يسوع أمام اليهود, إنه يُظهِر حقيقية كلام يسوع ويشهد له, إنه يراه في السماء عن يمين الله. هذه شهادة حية من استفانوس أن ابن الإنسان ذهب إلى حيث قال. بالنسبة لآذانهم، كان هذا التجديف هو الطامة الكبرى, وبما أنهم لم يكونوا على استعداد لأن يعترفوا بخطئهم بشأن قتل يسوع, فعليهم الآن أن يقتلوا استفانوس(2) .

«وَقْت انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ» (2تي 4: 6).

وفقًا للمِشنا كانت طريقة الرجم هكذا: يُؤخَذ المتهم إلى مكان عال ويدفعه الشاهد الأول مِن الخلف إلى جُرفٍ (منحدر) فيسقط على وجهه, ثم يديرونه على ظهره, فإذا كان قد مات نتيجة السقوط فهذا كافٍ ولا يُرجم, وإن لم يمت يأخذ الشاهد الأول حجرًا كبيرًا ويسقطه في قلبه فإن لم يمت, يأخذ الشاهد الثاني حجرًا آخر كبيرًا ويسقطه في قلبه, فإن تسبب هذا في الموت يكفي, وإن لم يمت يرجمه كل جماعة إسرائيل: «‎أَيْدِي الشُّهُودِ تَكُونُ عَلَيْهِ أَوَّلًا لِقَتْلِهِ، ثُمَّ أَيْدِي جَمِيعِ الشَّعْبِ أَخِيرًا، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ» (تث 17: 7)(3) . وأحيانًا يدحرج الشاهد الأول حجرًا ثقيلًا على الجرف قاصدًا أن يسحق الحجرُ المتهمَ بثقله, فإن لم يتمم الحجر مهمته, كان الشاهد الثاني يدحرج حجرًا آخر لعله يفي بالغرض(4) . كان استفانوس شابًا يافعًا فتيًّا فلم يمت لا من الدَّفع ولا من الحجر على قلبه, من ثَم رجموه(5) : «‎فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي» (أع 7: 59).

خلع الشهود ثيابهم حتى يكونوا أكثر دقة وقوة في رمي الحجارة. هنا تدنو اللحظة النهائية في استشهاد استفانوس, ففيما هم يرجمونه نراه - وسط الحجارة - يشد نفسه ويستقيم إلى وضع الركوع للصلاة. يا لَعظم هذا المنظر الملائكي! إنه يعرف وجهته الحقيقية جيدًا. الجو العام لهذه الصلاة جدير بالملاحظة لأن استفانوس يقدمه هنا بتوقير أكثر, فأولًا يركع, وفي ركوعه دلالة على اتضاعه, ثم يصرخ بصوت عظيم وفي هذا دليل على لجاجته. ولكن لماذا يقدم مثل هذا الاتضاع واللجاجة في صلاته الثانية بشكل ملحوظٍ أكثر من الأولى؟ في صلاته الأولى صلى من أجل نفسه: «فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي» (أع 7: 59). ولكن في صلاته الثانية, ما الذي كان يصلي لأجله؟ لم يصلِّ من أجل نفسه قائلًا: يا رب نجني! لكنه كسيده صرخ يطلب لأعدائه الغفران(6) : «ثُم جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ. وَإِذْ قَالَ هذَا رَقَدَ» (أع 7: 60), كما قال المسيح على الصليب: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو 23: 34)، وكمثل ما «نَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ» (لو 23: 46). إنها صلاة نادرة. وكما خلَّصَ المسيحُ بموته اللصَّ الذي آمن به, هكذا بصلاته خلَّصَ استفانوس شاولَ الذي سيصير فيما بعد بولس, أقوى كارز بإنجيل الخلاص في الطريق(7) . كما يقول ق. أغسطين: ”الكنيسة مدينة ببولس لصلاة استفانوس“(8) . وهكذا مبكرًا جدًّا صارت دماء الشهداء بذار الكنيسة(9) . يقول يوستينوس الشهيد الذي قطعت رأسه لأجل الإيمان عام 165م: [كلما اضطُهِدنا أكثر, كلما زاد جدًّا عدد الذين يقبلون الإيمان ويصبحون عابدي الله من خلال اسم يسوع](10) .

تحضُرُنا هنا حادثة رجم زكريا بن يهوياداع, الذي كان كاهنًا ونبيًّا للرب في الهيكل ذاته, وهو بن برخيّا (بَراشيا) الذي وصفه المسيح بأنه بار، «لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ بار δίκαιον سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ» (مت 23: 35). وتمَّت محاكمته بين الهيكل والمذبح: «وَلَبِسَ رُوحُ اللهِ زَكَرِيَّا بْنَ يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنَ فَوَقَفَ فَوْقَ الشَّعْبِ وَقَالَ لَهُمْ: هكَذَا يَقُولُ اللهُ: لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصَايَا الرَّبِّ فَلاَ تُفْلِحُونَ؟ لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمُ الرَّبَّ قَدْ تَرَكَكُمْ. فَفَتَنُوا عَلَيْهِ وَرَجَمُوهُ بِحِجَارَةٍ بِأَمْرِ الْمَلِكِ فِي دَارِ بَيْتِ الرَّبِّ. وَلَمْ يَذْكُرْ يُوآشُ الْمَلِكُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي عَمِلَهُ يَهُويَادَاعُ أَبُوهُ مَعَهُ، بَلْ قَتَلَ ابْنَهُ. وَعِنْدَ مَوْتِهِ قَالَ: الرَّبُّ يَنْظُرُ وَيُطَالِبُ» (2أخ 24: 20-22). هذا البار بينما كان يلتقط أنفاسه الأخيرة تحت ركام الحجارة التي حطَّمت ضلوعه صلَّى قائلًا: «الرَّبُّ يَنْظُرُ وَيُطَالِبُ». وكأنه يقول للرب ”امنحهم ما يستحقون“. فرغم تشابه موت زكريا واستفانوس, ولكننا نلاحظ أنه بينما كان زكريا يصلي لطلب القَصاص, كان استفانوس يصلي لطلب المغفرة. يا لَعظم هذا الحب, يا لَمجد وحلاوة هذه النعمة الهائلة. هكذا يموت الشهداء المسيحيون مملوئين بالحب(11) , «لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا» (رو 5: 5).

«ظَانِّين أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ...قام» (أع 14: 19-20).

«بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ» (لو 10: 30).

كان في أذهانهم الموت, لذا رأوا أنه لابد من قتله, وكانت في قلبه الحياة, فرأى الموت مدخله إلى الحياة المجيدة. كان جسده على الأرض وأما روحه فكانت في يدي ابن الإنسان: «فَإِذًا نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ. فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ» (2كو 5: 6-8).

كان لاستشهاد استفانوس في ذلك اليوم تأثير هائل, فحدث اضطهاد عظيم على الكنيسة في أورشليم. لكن الأكثر من ذلك هو أنه سيترك أثرًا لا يُمحى في حياة رجل اسمه شاول الذي لم ولن ينسى ذلك اليوم ولا تلك الشهادة. فتذكرها مبكتًا نفسه: «وَحِينَ سُفِكَ دَمُ اسْتِفَانُوسَ شَهِيدِكَ كُنْتُ أَنَا وَاقِفًا وَرَاضِيًا بِقَتْلِهِ، وَحَافِظًا ثِيَابَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ» (أع 22: 20). وعندما أدلى بشهادته لتلميذه تيموثاوس قال: «وَأَنَا أَشْكُرُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا الَّذِي قَوَّانِي، أَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِينًا، إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَةِ، أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلًا مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا وَمُفْتَرِيًا. وَلكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ» (1تي 1: 12-13). هنا يعترف بولس أنه لم يكن هناك من هو مذنب أكثر منه, على أننا نرى استجابة الرب لصلاة استفانوس: «يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ». فالرب غفر لبولس: «وَلكِنَّنِي رُحِمْتُ». وكما كان استفانوس فريسةً لشاول, كان بولس طعامًا للكنيسة.

تحت المذبح:

«دَم شُهَدَاءِ يَسُوعَ» (رؤ 17: 6)

‎ يا لَعمق غنى الله وحكمته! ما أعظم رئاسته في يوم قوته وما أعجب مجده في بهاء القديسين! سيظل «يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عب 13: 8). فمنذ القديم أنعم على الكنيسة بشهداء أبطال, رأينا منهم استفانوس الشخصية الفريدة العملاقة في الروح, وإلى الآن لا يزال يمنُّ علينا الروح بمثل هذه النماذج الباسقة المقدسة, ففي الخامس عشر من فبراير لعام 2015 رأينا مثالًا حيًّا ومنظرًا حقيقيًّا لشهداء الكنيسة الأماجد. فقد قامت حركة داعش بالقبض على 21 شخصًا مسيحيًّا قبطيًّا (20 قبطي + 1 من غانا أو تشاد) في ليبيا, وخيروهم بين إنكار مسيحهم أو الموت ذبحًا. ورغم بساطة هؤلاء الشباب إلا أنهم كانوا ذوي إيمانٍ راسخٍ, وبطولة باسلة, وشجاعة نادرة, وامتلاء فائض من الروح القدس. إنهم «مَدْعُوُّون وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمِنُونَ» (رؤ 17: 14), «ولمَ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ» (رؤ 12: 11). فوضعوا حياتهم في يدي الرب واستسلموا للذبح كخراف صامتة فغلبوا الموت بدم الحمل, وعبروا بسهولة إلى الحياة الدائمة. وبقليل من التأمل والتمعن يمكننا أن نرى فيهم نموذجًا حيًّا لما ينبغي أن يكون عليه الشهيد كما رسمه استفانوس. إنهم حقًا شهادة صادقة لعمل الروح القدس الفائق والفائض - في الآنية الخزفية الضعيفة - أن يُمجِّدَ المسيحَ فيهم: «يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ» (في 1: 20). إنهم صورة حية عن عمل النعمة في حياة المسيحي الحقيقي. قدموا للمسيح حياتهم كذبائح مقدَّسة مرضية كاملة, فصاروا تمجيدًا لاسمه في كل العالم وإلى مدى الدهر, جديرٌ بهم كل تكريمٍ ومديحٍ وإكرامٍ وتقريظٍ.

ذكصولوجية:

«وَهُو آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ» (عب 2: 10).

«وَأنا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي» (يو 17: 22)

رؤية مُحيّاكم البهيّ وطلعتكم الأبيّة, رؤوسكم المرفوعة, عيونكم المفتوحة, قلبكم الشجاع, روحكم المنطلقة, نفسكم المتحررة, أثلجت قلوبنا وبرّدت أفئدتنا.

صرتم معيارًا للإيمان ومكيالًا للشهادة, إذ نقيس قلوبنا على قلوبكم؛ إيماننا على إيمانكم؛ ثباتنا على ثباتكم؛ يطوِّقنا الخجل وندرك أننا في الموازين إلى فوق.

كيف صمدتم؟ كيف احتملتم؟ كيف تحملتم؟ كيف صبرتم؟ كيف رجوتم؟ كيف أحببتم؟ كيف قدمتم حياتكم رخيصة في حب الفادي؟ نسجتم كفنكم في أعماق قلوبكم, وحملتم أنفسكم في أيديكم, وضعتم أيديكم على المحراث ولم يعد يشغلكم سوى لقيا المحبوب.

ما ذابت قلوبكم خوفًا من التهديد والوعيد والسلاح, بل ذابت حبًّا ليسوعكم فحسبتم الموت لأجله أثمن من كل حياة. أركعوكم على الرمال, فقدمتم سجودكم لمن جثا على ركبتيه في جثسيماني. ظنوا أنهم قيدوا أيديَكم, وكنتم أنتم سبقتم فربطتم أيديكم مع يد الحبيب على الصليب. أوقفوكم أمام البحر ولكنكم تجاوزتموه وحسبتم أنفسكم واقفين على بحر الزجاج المختلط بالنار أمام عرش الخروف.

ذُبحتُم أيها الأبطال فسالت دماؤكم ونزفتم معها حبكم لفاديكم ولأعدائكم, فما لعنتموهم ولا سببتموهم ولا قاومتموهم, بل كخراف داجنة استسلمتم بكل كيانكم للذبح كحملانٍ تابعة للخروف القائم كأنه مذبوح.

مُتُّم أيها الأحياء وعلى لسانكم ترنيمة خلاصٍ لكل العالم ”يسوع ... يا ربي يسوع“, هتفتم باسمه بكل جوارحكم, فرأيتم السماوات المفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين أبيه يرحب ويهلل بقدومكم. افرحوا في أبديتكم واشفعوا في مذلتنا واذكرونا عسى نكمل حياتنا كما أكملتم.

أخيرًا يا إخوتي:

«فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ» (عب 13: 7)

مما سبق قد يتضح لنا أيها الإخوة المحبوبون أن الشهادة للمسيح تستلزم سفك الدم, في الحقيقة لا. لأن الشهادة μαρτυρία كما يُعرِّفها الإنجيل ليست فقط تستلزم الموت لأجل المسيح بل الحياة لأجله. الشهادة للمسيح هي وصية المسيح الأولى: «تَكُونُونَ لِي شُهُودًا» (أع1: 8). هي شهادة بقيامته من الموت وصعوده إلى السموات: [بموتك نبشر وبقيامتك المقدسة وصعودك إلى السموات نعترف](12) . هي كرازة حية بالإنجيل لكل العالم لا بحكمة كلام بل بالحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا. هي كرازة بالحياة, بالتقوى, بالبر, بحمل الصليب, بالسلوك بالروح كما سلك ذاك, فنسعى عنه كسفراء كأن الله يعظ بنا. هي كرازة بالمسيح كقوة الله وحكمة الله. الشهادة الحقيقية هي رؤية الرب المستمرة والإحساس بحضوره الفعلي في أدق تفاصيل الحياة. هي رؤية السماء المفتوحة رغم وجود الضَّعَفَات وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ. هي رفع العين والقلب إلى السماء, حيث يكون كنزنا, لمعاينة رئيس كهنتنا الذي قد اجتاز السموات كسابق لأجلنا, ورؤياه قائمًا عن يمين الله ضامنًا لعهد أفضل, وظاهرًا أمام وجه الله لأجلنا.

وأمَّا حياة الشهداء وبالأخص استفانوس فهي كفيلة بأن تترك فينا أثرًا لا يُمحىَ في كل نواحي حياتنا. إنها تعطينا القوة والمثال لنعيش حياة يظهر فيها مثل هذا التناقض الصارخ مع العالم الذي حولنا, لنظهر بملء الروح القدس, بملء الحب, بملء القوة, بملء الحكمة, بالبصيرة الروحانية. لننظر إلى نهاية سيرتهم فنتمثل بإيمانهم, لنكون على مثالهم ليس فقط في الساعة التي فيها قد نضطر للتضحية بحياتنا ولكن الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور، آمين.

__________________________________

(1) Dennis Gaertner, Acts, The College Press NIV Commentary, (Joplin, Mo.: College Press, 1993), Ac 7:56.

(2) John MacArthur, Acts, (Chicago: Moody Press, 1994, c1996), 221, 222.

(3) Dennis Gaertner, Acts, The College Press NIV Commentary, (Joplin, Mo.: College Press, 1993), Ac 7:60.

(4) Lake, Kirsopp and H.J. Cadbury. The Beginnings of Christianity, ed. F.J. Foakes-Jackson. Vol. 4. Grand Rapids: Baker, 1979, p 85.

(5) The Acts of the Apostles, ed. William Barclay, Lecturer in the University of Glasgow, The Daily Study Bible Series, Rev. ed., 61 (Philadelphia: The Westminster Press, 2000, c1976).

(6) «‎أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (مت 5: 44).

(7) الطريق هو اللقب الذي كان يُطلق على المسيحية في بدايتها, راجع (أع 9: 2), (أع 19: 9, 23), (أع 22: 4).

(8) The Acts of the Apostles, ed. William Barclay, Lecturer in the University of Glasgow, The Daily Study Bible Series, Rev. ed., 61 (Philadelphia: The Westminster Press, 2000, c1976).

(9) Tertullian, Apologeticus, 50. 13.

(10) Justin Martyr, Dialogue with Trypho

(11) John MacArthur, Acts, (Chicago: Moody Press, 1994, c1996), 225.

(12) ليتورجيا ق. باسيليوس.

**** من سير الشهداء: المسيح المتألِّم في شهدائه **********************************************

[وأمَّا فيليسيتاس فقد أُعطيت لها نعمة الله هكذا: فبينما كانت حُبلَى في الشهر الثامن، كانت تتأسَّف بشدَّة إذ لم يكن مُصرَّحًا أن تُلقَى حُبلَى للوحوش أو تُعذَّب علانية، فكانت تهاب لئلا يُسفَك دمها البريء أخيرًا مع الأشرار وليس مع الشهداء. بل ورفقاؤها الشهداء أيضًا كانوا يتأسَّفون معها، إذ لا يريدون أن يتركوا عنهم مثل هذه الرفيقة الحسنة السائرة معهم في طريق الرجاء عينه. فقبل يوم تعذيبهم بثلاثة أيام، رفعوا للرب صلاة بأنين واحد. وللوقت بعد الصلاة أتاها الطَّلْق مع الصعوبة الملازمة لولادة في الشهر الثامن. وبينما كانت تلد متألِّمة ومتوجعة، قال لها أحد الجنود الحُرَّاس: ”إن كنتِ الآن تتوجَّعين هكذا، فماذا تفعلين حين يُلقونكِ للوحوش التي احتقرتيها لَمَّا رفضتِ أن تذبحي للأوثان؟“ فأجابت: ”الآن أنا أُعاني ما أتألَّم به، ولكن حينذاك سيكون هناك آخر متألِّمًا عني، إذ يكون فيَّ متحمِّلًا الآلام، لأني لأجله أنا أتألَّم“]

استشهاد القديستين بربتوا وفليسيتاس

203 م.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis