أقوال آبائية


البتولية تكريس واستشهاد
للقديس أمبروسيوس أسقف ميلانو
(1)

تقديم:

قد يشتاق البعض أن يصبحوا شهداء لأجل مَنْ مات لأجلهم، ولتحقيق اشتياقهم الحار ليكونوا دائمًا مع المسيح: «لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا» (في 1: 23). ولكن القديس أثناسيوس يُجيبهم:

[يمكنك الآن أن تكون شهيدًا إن أردتَ: مُتْ عن الخطية، أمت أعضاءك التي على الأرض، وبذلك تصبح شهيدًا باختيارك. الشهداء كانوا يناضلون ضد الملوك والولاة، وأنت أيضًا لك عدو هو الشيطان مَلِك الخطية، والأرواح الشريرة كأنهم ولاة ... فمَنْ داوم على الملذات وتعبَّد للزنى فقد جحد يسوع وسجد للأصنام ... فإن أنتَ ضبطت هواك من هذه الأمور وتحفَّظت منها فقد وطِئتَ الأصنام وصرت شهيدًا والرب يسوع المسيح يساعدك](1).

وإن كان الزواج الذي باركه الرب وقدَّسته الكنيسة هو الطريق العادي للمؤمنين، إلَّا أن البتولية هي الطريق الأفضل، وتُدعى إليها وتنال نعمتها فئة قليلة من الناس. وتكريس المسيحي لبتوليته حبًّا في التفرُّغ لمخلِّصه يُعتبر نوعًا من الاستشهاد اليومي.

وقد وجَّه ق. أمبروسيوس - وهو في الثالثة والأربعين من عمره - رسالةً إلى أخته مارسلينا التي أثَّرت فيه بتقواها وتضحيتها بحياتها بشبه الشهداء بدون سفك دم، لأنها كرَّست بتوليتها لله سنة 352م. في روما عندما كان أمبروسيوس في الثامنة عشرة من عمره، حيث انتهز القديس فرصة أحد تذكارات الشهيدة الرومانية ”أجنيز“ فتأمَّل في استشهادها ثم أسهب في الحديث عن البتولية - التي أدَّت إلى استشهادها - موضِّحًا أنها نوع من الاستشهاد بل وتصنع أيضًا شهداء. ونقدِّم هنا للقارئ مقتطفات من هذه الرسالة(2):

وصف القديس لطهارة واستشهاد القديسة أجنيز:

+ «عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا النَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ» (عب 11: 35)

اليوم هو عيد ميلاد الشهيدة أجنيز العذراء، فلنتكلَّم عن العذارى، ولنصارع لأجل الطهارة. ليتعجَّب الكبار وليتشجَّع الصغار، ليندهش المتزوجون وليتشبه بها غير المتزوجين. لقد كان تكريسها للرب أمرًا يفوق على سنِّها الصغير، وقد تفوَّقت فضائلها على الطبيعة البشرية لدرجة أنه يبدو لي أن اسمها لم يكن يخص البشر كثيرًا، وهكذا أيضًا كان استشهادها النبوي العلني الذي دلَّ على حالتها الروحية.

يخبرنا التقليد أنها تحمَّلت الاستشهاد في نحو الثانية عشر من عمرها، فبقدر ما كانت القسوة التي لم ترحم مثل هذا السن الغضّ مكروهة، بقدر عظمة قوة الإيمان الذي شُهد له حتى في هذا السن. ومع أنه لم يكن في جسمها الصغير متسع لضربة السيف إلاَّ بالكاد، فقد كان لديها ذلك الإيمان الذي قَهَر الحديد!

لا يمكن للبنات في هذا العمر أن يتحمَّلن تعبيرًا غاضبًا على وجه أحد الوالدين، كما أنهُنَّ قد يبكين من وخزة إبرة ... ولكن هذه القديسة بجراءتها بين يدي الجلاَّد القاسيتين لم تهتز من ثقل السلاسل التي قُيِّدت بها، ورغم أنها لم تألف الموت، إلَّا أنها كانت مستعدة له، وهكذا قدَّمت جسدها كله لسيف الجندي الهائج! وإن كانت قد دُفعت ضدًّا لرغبتها إلى مذابح الآلهة، ولكنها مدَّت يديها للمسيح في وسط النار، وأمام تلك النيران الدنسة رشمت علامة انتصار الرب. وقد وُضِعت يداها ورقبتها في القيود الحديدية، ولكن لم يكن من الممكن لأي قيد أن يُغلَق على تلك الأعضاء الرقيقة!

إنه لَنوعٌ جديدٌ من الاستشهاد! فتلك التي لم ينقذها صغر سنّها قد علَّمت الفضيلة للآخرين. إن العروس لا ترغب في الإسراع إلى فراش الزوجية بفرح كما تقدَّمت تلك العذراء إلى موضع العقاب! لم يكن يزيِّن رأسها شعرٌ مضفورٌ بل المسيح. لم تكن مزيَّنة بزهور أنيقة بل بقوة الشخصية، وفي حين كان الجميع يبكون كانت هي وحدها جافة العينين! لقد تعجَّب الجميع من أنها كانت مستعدة بهذه الدرجة لبذل حياتها وكانت بالكاد قد ذاقت كأس الحياة، ومع ذلك فقد تخلَّت عنه وكأنه قد فرغ فعلًا. لقد سادت الدهشة على الجميع من أن إنسانًا كان مستعدًّا أن يشهد للرب مع أن عمره لا يؤهِّله لذلك!

بأيَّة مرعبات حاول الجلَّاد أن يُخيفها؟! وبأيَّة تملُّقات حاول أن يُثيرها؟ ولكن ردّ فعلها كان: ”إنه ل‍مِنَ الظلم لعريسي أن أنظر إلى أحد آخر لكي أُرضيه، فإن ذاك الذي اختارني أولًا لنفسه هو الذي يقبلني. أيها الجلاد، لماذا تتأخر؟ فليهلك الجسد الذي يلذّ للعيون التي أرفضها“! ثم صلَّت ... وكان الجلَّاد يرتعش وكأنه هو الذي حُكم عليه ...! في حين أن الفتاة لم تَخَف على نفسها! إذن، فلديكم في هذه الضحية الواحدة استشهادٌ مضاعفٌ: أحدهما لأجل احتشام البتولية، والآخر لأجل الإيمان. لقد ظلَّت عذراء ونالت الاستشهاد!

البتولية تصنع شهداء:

+ «فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ» (مت 22: 30).

ها هي محبة الطهارة تحثنا أنا وأنتِ، يا أختي القديسة، أن نقول شيئًا عن البتولية الجديرة بالثناء، ليس لأنها توجد فقط في الشهداء، بل لأنها هي نفسها تصنع شهداء! لقد جُلبت البتولية من السماء لكي يتشبَّه بها الذين هم على الأرض، ومن المؤكَّد أن تلك التي وجدت لنفسها قرينًا من السماء يناسبها أن تبحث لنفسها عن نمط حياة في السماء! لقد اجتازت وراء السحب والهواء والملائكة والكواكب ووجدت كلمة الله في حضن الآب ذاته واجتذبته بكل قلبها «رائحة أدهانك أفضل من جميع الأطياب، اسمك دهنٌ مهراقٌ لذلك أحبتك العذارى واجتذبنك إليهن» (نش 1: 3و4 سبعينية)، وهذا ليس هو مفهومًا شخصيًّا لي، لأن هؤلاء «لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ» (مت 22: 30). ولا يتعجَّبن أحدٌ إذا قورن بالملائكة أولئك الذين ارتبطوا برب الملائكة! مَنْ ذا الذي ينكر، إذن، أن هذا النمط من الحياة ينبع من السماء، هذا الذي لا نجده بسهولة على الأرض إلَّا عندما نزل إلهنا ودخل في جسد ترابي؟!

حلبة الاستشهاد

حقًّا إنه بعد أن جاء الرب في الجسد، غُرست طريقة حياته السماوية في أجسادٍ بشريةٍ وانتشرت في العالم كله ... هذه هي الخدمة التي يُنشد فيها جيش الملائكة تسبيحًا موعودًا به على الأرض ... في هذا الأمر وحده (أي البتولية) لا يوجد معادلٌ لنا بين الوثنيين أو البرابرة أو بقية الكائنات الحية ... وحتى الوصايا الفلسفية لم تستطع أن تشكِّل بتوليين ... إن نصرة عذارانا المسيحيات ليست هي على لحم ودم فحسب بل أيضًا على رئيس العالم المتولي على هذا الدهر! كانت القديسة أجنيز هي الأصغر في العمر ولكنها هي الأكبر في الفضيلة والأعظم في انتصارها والأكثر بسالةً في ثباتها وجلَدها ...

الوطن الأصلي للعفة والبتولية:

والآن دعونا نحدّد أصل موطنها، لأنه إذا كان موطن المرء هو مسقط رأسه، تكون السماء هي في الحقيقة مسقط رأس العفة التي هي غريبةٌ هنا، أمَّا هناك فهي مواطنة! المسيح - المولود من الآب قبل كل الدهور - هو قرين العذراء (أي النفس البتول)، وإن جاز القول فإن المسيح هو قرين عفة البتولية، لأن البتولية هي من المسيح وليس المسيح من البتولية. وعلى ذلك فإن التي تزوَّجت (الكنيسة عروس المسيح) إنما هي عذراء، والتي حملتنا في رحمها هي عذراء. عذراءٌ هي التي تلد وعذراءٌ هي التي تغذِّي بلبنها تلك التي نقرأ عنها: «اسألوا الآن بين الأمم، مَنْ سمع مثل هذه الأمور الهائلة جدًّا التي فعلتها عذراء إسرائيل» (إر 18: 13 سبعينية)!

الأُمّ عذراء وبناتها عذارى:

من أي نوع تلك العذراء التي تُروَى من ينابيع الثالوث الأقدس؟ لأجل مَنْ تتدفَّق المياه من الصخرة؟ والثُّدي لا ينضب معينها والعسل ينسكب؟ إن الصخرة هي المسيح حسب قول ق. بولس (1كو 10: 14). ولا تتوقف مياه النهر المنسكبة من الروح القدس. هذا هو الثالوث الأقدس الذي يروي كنيسته: الآب والابن والروح القدس.

والآن، فلننتقل من تقديرنا للأم إلى بناتها، فالرسول يقول: «وَأَمَّا الْعَذَارَى، فَلَيْسَ عِنْدِي أَمْرٌ (أو وصية) مِنَ الرَّبِّ فِيهِنَّ» (1كو 7: 25). لأن البتولية لا يمكن أن تُفرَض بل تُختار، لأن الأمور التي تفوق طبيعتنا أحرى بها أن تكون مواضيع للصلاة من أجلها من أن تكون تعاليم توجيهية. إن الرسول نفسه يقول: «أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا بِلاَ هَمٍّ. غَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ يَهْتَمُّ فِي مَا لِلرَّبِّ كَيْفَ يُرْضِي الرَّبَّ ... غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ تَهْتَمُّ فِي مَا لِلرَّبِّ لِتَكُونَ مُقَدَّسَةً جَسَدًا وَرُوحًا. وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجَةُ فَتَهْتَمُّ فِي مَا لِلْعَالَمِ كَيْفَ تُرْضِي رَجُلَهَا» (1كو 7: 32-34).

إنني بالتأكيد لستُ أُثني الناس عن الزواج، بل إنني أُبرز فضيلة البتولية، فالقديس بولس يقول: «أَمَّا الضَّعِيفُ فَيَأْكُلُ بُقُولًا (أو خضروات)» (رو14: 2) ... أما بخصوص البتولية فيقول: «مَنْ زَوَّجَ فَحَسَنًا يَفْعَلُ، وَمَنْ لاَ يُزَوِّجُ يَفْعَلُ أَحْسَنَ» (1كو 7: 38)، فالمرأة لا تخطئ إن هي تزوجت، وإن لم تتزوج فهي تتجه (أو تختصر الطريق) نحو الأبدية. الزواج هو علاجٌ للضعف البشري، أما البتولية فهي مجد العفة! «هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ» (لو 23: 29). إن ابنة الملكوت تتخلَّى عن بهجة الزواج والمسرَّة الجسدية لكي تكون مقدَّسةً جسدًا وروحًا.

أيتها العذارى المباركات ... أنتنَّ اللواتي تلوِّن الطهارة المقدَّسة وجوهكنَّ المحتشمة، والعفة المحبوبة هي زينتكنَّ ... لديكنَّ جمالكنَّ الخاص بكنَّ الذي يخدمه جمال الفضيلة وليس الجمال الجسدي! والسنّ (أي الشيخوخة) لا يمكن أن يُفسِد هذا الجمال، والموت لا يمكنه أن ينزع شيئًا منه ولا المرض يمكنه أن يُفسده! هكذا أيضًا الكنيسة المقدَّسة، فهي ليست دنسة في اتحادها (الزيجي)، بل مثمرةٌ في إنجابها للأولاد. هي عذراء في عفَّتها وأمٌّ في نسلها. وهي كعذراء تلدنا بامتلائها من روح الله وليس بواسطة زوج. إنها كعذراء تلدنا ليس مع وجع الأعضاء الجسدية بل مع فرح الملائكة! إنها كعذراء تغذِّينا ليس بلبن جسدي بل بذلك اللبن الذي يعطيه الرسول القديس للذين لا زالوا ضعفاء وفي سنّهم الغضّ (انظر: 1كو 3: 2).

أيَّة عروس لها أولاد أكثر من الكنيسة المقدَّسة التي هي عذراء في سرائرها الكنسية وأُمٌّ في شعبها؟! والتي يشهد حتى الكتاب المقدَّس لكونها مثمرة قائلًا: «لأَنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ» (إش 54: 1). أُمُّنا (الكنيسة) ليس لها زوج ولكن لها عريس، لأنه كما أن الكنيسة بين الشعب أو النفس في الإنسان لا تتدنس أية واحدة منهما بأي انحراف عن الاحتشام مع أنها حُبلى بالحكمة، فهي في عُرس مع كلمة الله كقرين أبدي لها!

البتول مَلِكة مخصصة للمَلِك الحقيقي:

+ «لاَ يَقُلِ الْخَصِيُّ: «هَا أَنَا شَجَرَةٌ يَابِسَةٌ لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِلْخِصْيَانِ ... إِنِّي أُعْطِيهِمْ فِي بَيْتِي وَفِي أَسْوَارِي نُصُبًا وَاسْمًا أَفْضَلَ مِنَ الْبَنِينِ وَالْبَنَاتِ. أُعْطِيهِمْ اسْمًا أَبَدِيًّا لاَ يَنْقَطِعُ» (إش 56: 3-5).

العذراء (البتول) هي عطية من الله، ثمرة والديها، كهنوت العفة. العذراء هي تقدمة أُمّها، فبذبيحتها اليومية تسترضي القدرة الإلهية ... البتولية هبة لقليلين فقط، أمَّا الزواج فهو للجميع ... وأنا لا أُقدِّم رأيي الخاص، ولكنني أردِّد ما أعلمنا به الروح القدس بالنبي القائل: «إِنَّ الْبَتُولِيَّةَ (عدم الأولاد) مَعَ الْفَضِيلَةِ أَجْمَلُ» (حك 4: 1). العذارى هُنَّ اللواتي يمكنهنَّ أن يقلن: «أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ» (مز 45: 2)(3). من هو هذا العريس؟ هو ذاك الذي عرشه في الأبدية كلها («كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ» مز 45: 6). وبنات الملك توجدن في مجال كرامته: «قامت الملكة عن يمينك بثوبٍ موشَّى بالذهب مزينةً بأنواع كثيرة (من الفضائل)» (مز 45: 9 حسب الترجمة القبطية)، ولذلك: «اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنكِ وانسي شعبكِ وبيت أبيكِ، فإن الملك قد اشتهى حُسنكِ لأنه هو ربّكِ» (مز 45: 10و11 الترجمة القبطية).

(يتبع)

__________________________________

(1) Les sentences des Pères du désert, Série des anonymes, No 1600.

(2) Early Christian Spirituality, Charles Kannengiesser, p. 82.

(3) يمكن أيضًا لكل متزوج أن تكون نفسه عذراء للمسيح مكرّسة له وليس لإنسان.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis