من التراث الكنسي


مفهوم الشركة الكنسية
KOINONIA
(1)
الأب أنتوني م. كونيارس (1)

لا تحرم الجسد من أعضائه

نقرأ في الدسقوليَّة (الديداسكاليا Didaskalia) التي هي وثيقة سريانيَّة من القرن الثَّالث الميلادي:

[عندما تُعَلِّم، حثَّ النَّاس وعِظهم أن يكونوا مُخلصين إلى جماعة الكنيسة. دعهم لا يتخلَّفون عن الحضور، بل دعهم يتجمَّعون بإخلاص معًا، ولا تَدَع أحدًا يحرم الكنيسة منه بالبقاء بعيدًا, لأنَّهم بفعلهم ذلك يحرمون جسد المسيح من أحد أعضائه؛ إذن لا تجعلوا جلَّ اهتمامكم على أنفسكم، ولا تحرموا جسد المسيح من أحد أعضائه, فلا تقطع، أو تبعثر جسده].

عندما نقول إنَّنا ذاهبون إلى الكنيسة، فهذا يعني إنَّنا ذاهبون لجماعة المؤمنين، ليس فقط لأجل صلاة فردية ولكن لأجل صلاة، جنبًا إلى جنب مع كلِّ المؤمنين، لنكون ما صرنا عليه يوم معموديَّتنا ـ أعضاء على أكمل الوجه، وبالمعنى المُطلَق لمصطلحنا ـ أعضاء جسد المسيح: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا» (1كو 12: 27). نحن نذهب إلى الكنيسة لنشكِّل الكنيسة، لنكون نشيطين، أعضاءَ جسدٍ فعَّال خلال ما يعمله المسيح اليَوم: ”أُمَّة مقدَّسة، كهنوت ملوكي، جنس مختار“ (انظر: 1بط2: 9، 10), لنُعلِن ونُظهِر ونعترف بحضور المسيح ومملكته في العالم: «لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ من الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ».

أن تبقى نشطًا ومُفعمًا بالحيويَّة في الجسد

نظلُّ على قيد الحياة ومفعمين بالحيويَّة طالما نبقى في الجسد, فمثلًا إذا قُطِع أصبع من الجسد فإنه يفقد حياته ويموت. هذا هو الحال مع المسيحيين, فنحن نبقى على قيد الحياة فقط طالما نبقى في الجسد. لو فصَلنا أنفسنا عن الجسد، فلن يعود الروح القدس معنا, وسوف نموت روحيًّا، قال الرب يسوع: «أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ» (يو 15: 1-6). لو أننا نثبت في المسيح وحافظنا على علاقتنا معه، فسوف نختبر الشركة koinonia الحقيقيَّة، والاتصال الحقيقي معه ومع بعضنا البعض كأعضاء جسد المسيح الواحد، فنشعر بألم بعضنا البعض، ونبتهج بفرح بعضنا البعض ... إلخ. هذا النوع من الشركة koinonia أو التواصل لا يتحقَّق حقًّا إلَّا إذا كنَّا ثابتين فيه، وهو فينا، في جسده, الذي هو الكنيسة.

أن نبقى متَّصلين

يوجد العديد من الناس لديهم ساقٌ مشلولة, وفي حالات عديدة لا يوجد خطأ في السَّاق، لكنَّ الأعصاب في السَّاقَين انفصلت وتدمَّرت ولم تعُد الأعصاب الموصِّلة من الدماغ متَّصلة بالسَّاقين؛ وعادة ما يحدث نفس الشيء للمسيحيين, فإنهم يُقطعون روحيًّا من الرأس، يسوع, وماذا تكون النتيجة؟ شلل. في كثيرٍ من الأحيان يستطيع المشلول جسديًّا المشي مرَّة أُخرى إذا كان من الممكن إعادة توصيل العصب المقطوع بمركز التحكُّم من خلال الجراحة. على نفس الوتيرة، لو حدث أننا فصلنا أنفسنا عن جسد المسيح بسبب الخطية, فإن نعمة الله تُعيد دمجنا في الجسم خلال التوبة والاعتراف. نعمة الله تُعيد دمجنا في الجسم من خلال التوبة والاعتراف. يتساءل القديس يوحنا ذهبي الفم St. John Chrysostom:

[هل ارتكبتَ خطأ؟ اذهب وادخل الكنيسة وتُب عن خطئك ... لأنه يوجد هنا الطبيب، ليس الحاكم, هنا ليس مكان التحقيق ولكن مكان غُفران الخطايا].

الحَبْل السُّرِّي

كيف نحافظ على اتصالنا بالله؟ عندما نولَد فإن الحبل السُّرِّي الذي يربطنا بأمَّهاتنا للحصول على الطعام والحياة يُقطَع؛ ولكن يوجد حَبْل سُرِّي آخَر يجب أن لا يُقطَع, إنه الحَبْل السُّرِّي الرُّوحي، الَحبْل السُّرِّي للإيمان, المعمودية, والتناول, الذين بهم نبقى متَّصلين بالله لنستمد الحكمة والقوَّة والروح والحياة.

عندما نقطع هذا الحَبْل السُّرِّي الروحي من خلال التكبُّر وعدم الطاعة والخطية, فإنَّ الحياة مع الله تبدأ تموت بداخلنا, وهنا نفقد معنى الحياة ونشعر بالملل منها. أتى الربُّ يسوع ليعطينا اتصالًا جديدًا بالله, وفي الحقيقة, هو حَبْلنا السُّرِّي كما قال: «أَنَا الكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا» (يو15: 5). كَتَبَ القديس يوحنا يقول: «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ» (يو 1: 4).

أهميَّة حِفظ الحَبل السُّرِّي الرُّوحي متَّصلًا بالله يَشرح لنا لماذا كان يدعو يسوع في عظته الأولى إلى التَّوبة. لذلك, فإنَّه من خلال التَّوبة اليوميَّة يُعاد اتِّصال ذلك الحَبل الذي يُفصَل بالخطيَّة بمصدر الحياة الذي هو الرَّب يسوع.

جوليان النُّرويجية Julian of Norwich المتصوِّفة الانجليزية من القرن الرَّابع عشر، صوَّرت يسوع يحملنا داخله مِثل أُم تحمل رضيعها داخل رحمها, وهذه هي كلماتها بالضَّبط:

”مخلِّصنا هو أمُّنا الحقيقيَّة، الذي فيه وُلِدنا بلا نهاية, وخارجًا من رحِمِه لم نأتِ أبدًا. في أمومته المُفعَمة بالرحمة والنعمة, فإنَّ يسوع الكريم يُطعِمنا بنفسه بالسرِّ المبارك, الإفخارستيَّا: «مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ»“ (يو 6: 56).

الحَبْل السُّرِّي الذي به يُطعِمنا لا ينفصل أبدًا بواسطة الله, ولكن فقط بإرادة الإنسان الحرَّة من خلال الخطية. هذه هي القوَّة الهائلة التي وهبها الله لنا عندما منحنا هبة الإرادة الحرَّة.

إنه من خلال هذا الحَبل السُّرِّي من الإيمان والأسرار يبقى كل عضو متَّصلًا في جسد المسيح متَّصلًا بالكَرمة المحيية, يسوع, لنحمل ثمرًا كثيرًا له.

أن نبقى متَّصلين بالمسيح, فهذا يُقيم شعورًا بالشَّركة koinonia في جسد المسيح, ويؤسِّس شركة المحبَّة والحق، وهو التعبير عن ملكوت الله في وسطنا. كان أليكسي كومياكوف مولَعًا بوصف الكنيسة على أنَّها: ”شركة أساسية في الحب“, إنَّ صورة أعضاء الجسد التي يستخدمها القدِّيس بولس هي مثال رائع عن كيف تعمل هذه الشركة koinonia.

المرأة العجوز و البَصَلَة

عكس كلمة ”شركة communion koinonia“ هي ”العزلة isolation“. وهذه مثَّلها دوستويفسكي Dostoevsky بقصَّة (المرأة العجوز والبَصَلَة). ربما تتذكر كيف حاول ملاكها الحارس أن يسحب تلك المرأة العجوز خارج بحيرة النار بمساعدة بَصَلَة قد أعطتها ذات مرَّة لشخصٍ فقير, وعندما ازدحم أُناس آخرين حولها، آملين أن يُسحبوا خارجًا هم أيضًا وهم يحاولون أن يتشبَّثوا أيضًا بالبَصَلَة، صاحت بسخطٍ: ”اتركوها، أنا الذي أسحبها وليس أنتم. إنها بَصَلَتي وليست لكم!“ وبمجرد أن تكلَّمت بهذه الكلمات انشطرت البَصَلَة إلى جزئين ووقعت المرأة مرَّة أُخرى داخل بحيرة النار, وذلك لعدم رغبتها في أن يشاركها آخرون في التعلُّق بالبَصَلَة ومشاركتهم لها. في رفضها لذلك بقولها: ”إنها بَصَلَتي“, فقد اختارت العزلة عن الجماعة أو الشركة koinonia. نفس الموضوع نجده في واحدة من أساسيات نصوص الرهبنة الأرثوذكسية, وهو كتاب أقوال آباء الصحراء Gerontikon or Sayings of the Desert Fathers. يُقال إنه عندما سأل القديس مقاريوس المصري St. Makarios the Egyptian جمجمةَ كاهن وثني عن أيِّ نوع من العذاب كان المدانون يعانون في الجحيم، فأجاب الكاهن وقال: ”نحن لا نستطيع أن ننظر لبعض وجهًا لوجه, ولكن كلٌّ منَّا مثبَّت إلى الآخر خلفًا لخلف“, ثمَّ أضاف: ”لكن عندما تصلِّي لأجلنا, فكلُّ واحدٍ منَّا يستطيع أن يرى وجه الآخر قليلًا. إنَّ عكس كلمة: ”شركة “koinonia هي: ”عُزلة, انفراديَّة isolation or individualism“. وهذا أصعب ما في الجحيم.

شخصي أم غير شخصي؟

في اللُّغة اليونانيَّة هناك كلمتان تقابلان كلمة: "شخص" العربيَّة, الأولى كلمة: ”atomon“ ومعناها: ”شخص عَزَل نفسه“, فهو لا ينتمي للناس, وهو غير شخصي, هو يعيش بنفسه, وهذا يقال عنه باليونانية: ”idiotis“ وهي كلمة اشتُقت منها الكلمة الإنجليزية: ”idiot“, وهذه تصف شخصًا منعزلًا, وحيدًا, يتجنَّب النَّاس, يُبقي على نفسه ويعيش بمفرده دون علاقة بالله ولا بالناس.

الكلمة الأخرى لكلمة ”شخص“ العربية هي في اليونانية: “prosopon”, وهي مُشتقة من كلمتين يونانيتين, الأولى: ”pros“ ومعناها: ”نحو“, والأُخرى: ”“opsin ومعناها: ”وجه“.

ومعناها حرفيًّا: ”النَّظر إلى وجه أو عيون الآخَر“. إنها تُعبِّر عن الحقيقة أننا أصبحنا أشخاصًا لأننا نعيش في علاقة مع الله وأُناس آخرين.

العلاقات أساسيَّة في حياتنا: في دراستنا، في شغلنا، في اكتشاف أنفسنا؛ فالكل يعتمد على العلاقات. نحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا على حقيقتها لو لم يكن لدينا أشخاص ننتمي إليهم, ومن المُمتِع أن نعرف أنَّ كلمة “prosopon” التي معناها ”شخص“ في العربيَّة, معناها أيضًا: ”وجه“ في اليونانية. وبكلمات أخرى, فإنه فقط عندما أواجه شخصًا آخَر وأنظر في عينيه، وأتصل به، أنني نفسي أُصبح شخصًا, وأوفَّق لأفهم مَنْ أنا. لا أحد يستطيع أن يُصبح شخصًا بمفرده.

فلهذا السبب خلقنا الله لنعيش في علاقة معه ومع أُناس آخرين, خلقنا لنعيش في شركة koinonia وجماعة خاصة التي يصفها القدِّيس بولس أنها جسد المسيح.

عكس حياة الشركة: "koinonia"

هي الفرديَّة. الانعزالية: "individualism"

عكس الشركة the koinonia، أي الجماعة التي نراها في جسد المسيح، هي العزلة والانفرادية individualism، الفرديَّة التي تقول: ”أنا صاحب السِّيادة, أنا مكتفٍ بذاتي, أنا لا أحتاج إلى أي شخص“. هذه هي الفرديَّة التي وصَفَها القدِّيس بولس عندما تحدَّث عن العين وهي تخاطب اليد وتقول: «لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ» (1كو 12: 21).

الفرديَّة على أي حال كانت الخطيئة الأصلية عندما قال آدم لله: ”سوف آكُل من شجرة معرفة الخير والشَّر وأتعدَّاك. سوف أكون الله. أنا لا أحتاجك“.

الحقيقة الأعمق عن أنفسنا ليست أننا مكتفون ذاتيًّا ولا أننا ضعفاء ومحتاجون وعُرضَة للخطأ؛ ولكن هي أننا خُلِقنا للشركة مع الله، ومع بعضنا البعض، ومع كلِّ الخليقة ... ومع ذلك فإنَّ البشر رفضوا بإصرار هذه الشركة واستمروا في رفضها.

شركة الثَّالوث القدُّوس

الشركة koinonia الجميلة الموجودة في جسد المسيح على الأرض, والتي وَصَفَها القدِّيس بولس جيدًا في رسائله, ليست سوى انعكاس للشركة koinonia الموجودة في الثَّالوث القدُّوس حيث ثلاثة أشخاص يعملون معًا في غاية الانسجام والحب ووحدة الكيان. الله الآب لا يفكِّر أبدًا أن يقول للابن: ”أنا لستُ في حاجة إليك“, الابن لا يتخيَّل إطلاقًا أن يقول للآب, أو الرُّوح القُدُس للآب والابن: ”لا حاجة لي إليك“؛ ذلك سيكون الانفرادية. الثالوث عكس الفردية. إنَّه الشركة koinonia، المجتَمعية, الانسجام، الصُّحبَة، الحب. إنَّه الأصل الذي يجعل كل أعضاء الجسد تعمل معًا في حُبٍّ, وكما يقول القدِّيس بولس: «مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ» (رو12: 10 ). وكما أنَّ التفكير في الآب والابن والرُّوح القدس كأفراد منعزلين لا معنى له، لذلك إنَّه لتناقض أن تفكِّر في مسيحي كفرد منعزل, منفرد، مكتفٍ بنفسه. أن تُشارك في القربان يعني أن تكون فردًا في الشَّركة koinonia مع الثالوث ومع أعضاء جسد المسيح الآخرين. من المثير للاهتمام أن تلاحظ أنَّ سِرّ الإفخارستيَّا Eucharist في اللُّغة اليونانيَّة يُطلق عليه أيضًا الشَّركة الإلهيَّة theia koinonia.

روبرت بيلاه Robert Bellah عالِم الاجتماع البارز في جامعة كاليفورنيا، أفاد بأنَّ ظاهرة مخيفة آخذة في الظهور في مجتمع أمريكا الشماليَّة وهي سيطرة الفردية القاسية في أواخر القرن التَّاسع عشر، حيث يكون الفرد مسئولًا عن لا أحد سوى نفسه. أكثر من ذلك، فقد قرَّر بيلاه Bellah أنَّ المؤسَّسة الوحيدة التي يجب أن تكون قوَّة مضادة للفردية القاسية هي الكنيسة، التي تستحق أن تكون هيئة اجتماعية يعتمد أفرادها على بعضهم البعض مدى الحياة في الروح، خاصَّة في ضوء عقيدة القديس بولس أنه في جسد واحد لا يمكن لأحد الأعضاء أن يقول لآخَر: «لاَ حَاجَةَ لِي إِليك» (1كو 12: 21), ومع ذلك يعتقد Bellah أنَّه حتى الكنيسة، بدلًا من أن يكون لها التَّأثير على المجتمع الأمريكي، فإنها تأثَّرت به، وأصبحت منعزلة أكثر وأكثر؛ وعندما أقول الكنيسة, فأنا أعني كل واحد منَّا، مع كلِّ التركيز والانتباه عليَّ ولي.

حتى وعندما يتعلَّق الأمر بالعبادة، فكثير من العلمانيِّين يكُونون مجرَّد ”حضور“، بينما رجال الكهنوت يقيمون القدَّاس. ليس هذا هو معنى القدَّاس, إنَّه شعب الله ـ كل أعضاء الجسد ـ الذين يحتفلون بالليتورجيا معًا. لا أحد ”متفرِّج“, ولو أحد يفعل هكذا، فهو أو هي يفصل نفسه عن الجسد. هذه هي الطريقة التي تفكِّك بها الفردية الجسد.

(يتبع)

__________________________________

(1) عن كتاب: Anthony M. Coniaris. The Eye Cannot say to the Hand I have No Need of you

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis