مفاهيم
إيمانية
(4)


النبوة في العهد الجديد
«لا تحتقروا النبوات» (1تس 5: 20)
- 2 -

شهادة الجموع عن نُبوَّة يسوع:

لقَّبت الجموع يسوع بالنبي: «قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السامرية: يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!» (يو 4: 19)؛ «قَالُوا أَيْضاَ لِلأَعْمَى: مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ» (يو 9: 17)؛ «فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هذَا الْكَلاَمَ قَالُوا: هذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ» (يو 7: 40)، وانظر أيضًا أقوال الجموع بعد معجزتي إقامة ابن أرملة نايين، وبركة الخمسة أرغفة (مت 16: 14؛ لو 7: 16). كما أطلقت الجموع أيضًا هذا اللقب كنتيجة مباشرة وطبيعية لما صاحب تعاليمه من علامات إعجازية وآيات لا يقدر عليها إنسان عادي لم يُرسله الله، وذلك مثلما شهد المولود أعمى أمام اليهود قائلًا: «مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحدًا فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيئًا» (يو 9: 32و33)؛ انظر أيضًا: (يو 6: 14، 7: 40).

لكننا نلاحظ أن يسوع لم يذكر نفسه بهذا اللقب إلا عَرَضًا، كما ورد في إنجيل متى حيث قال: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ» (مت 13: 57). كذلك في حديثه مع تلميذي عمواس بعد القيامة: «فَقَالَ لَهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: الْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي كَانَ إِنْسَانًا نَبِيًّا مُقْتَدِرًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ» (لو 24: 19)، وما تبع ذلك من تأمين يسوع على قولهما وشرح ما غمض لهما. كذلك أيضًا شهادة بطرس الرسول عنه الواردة في (أع 3: 22) والموضِّحة لتمام نبوَّة موسى النبي في شخص المسيح والتي وردت في سفر التثنية (18: 15).

ومع كل هذا نقول إن شخصية يسوع قد تجاوزت كل هذا التقليد النبوي، فالمسيح هو عبد الرب وابن الإنسان، وهو أيضًا ابن الآب والواحد معه في الربوبية: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 10: 30)، الأمر الذي جعله يفوق كل صفوف الأنبياء، حسب ما ورد في سفر العبرانيين: «اللهُ، بَعْدَمَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَمَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، صَائِرًا أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْمًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ» (عب 1: 1-4)، فالمسيح يستمد كلامه من الآب، وفي نفس الوقت فإنه (ككلمة الله المتجسِّد) صار إنسانًا - حسب التدبير - كقول يوحنا البشير: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يو 1: 14).

لقد شَهِدَ جميع الأنبياء وأعلنوا أنهم يتكلَّمون بوحي الله لهم، أما يسوع فكان يقول علانية: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ»، إذ هو نفسه الحق المطلق الذي يُستَعلن في شخصه وكلماته ملء الحق، فهو إذًا أعظم من نبي وأعلى من ذات المستوى النبوي بما لا يُقارن(1).

كمال النبوَّات في العهد الجديد:

كان العهد الجديد يعي ويُدرك أنه يمثل تمام وعود النبوَّة الواردة في العهد القديم. وسفر إشعياء النبي - مثلًا - خاصة ترنيمة عبد الرب المعتَبرة أنها خلاصة النبوَّة، يُعد نموذجًا رائعًا للجمع بين إعلان الوعود وكيفية تحقيقها، كما تكثر اقتباسات الأناجيل والرسائل من هذا السفر إلى حدٍّ كبير (قابل: إشعياء 6: 9 مع إنجيل متى 13: 14 و15؛ يوحنا 12: 39و40 مع أعمال الرسل 28: 26و27).

ورغم أن العهد الجديد يُبرز لنا الملامح المميِّزة لحياة يسوع، إلا أنه يكشف من خلال طياته صورة التطابق الإجمالي بين الأنبياء، وكذلك التناغم المذهل بينهم، من خلال تحقيق ما سبق وأنبأ به الرب يسوع عن آلامه وموته وقيامته: «لَيْسَ هُوَ ههُنَا لكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ، قَائِلًا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ. فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ» (لو 24: 6-8؛ أع 3: 18-24).

كما يقدِّم العهد الجديد لنا نموذجًا للتداخل العجيب لأسرار الإيمان كله: الآلام والقيامة، والتي تُعدّ أولهما موضوع كثير من النبوَّات الواردة في العهد القديم، وكثيرًا ما وردت نبوَّات الآلام والقيامة معًا في تداخل رائع، وكلاهما يمثِّل محورًا أساسيًا في حياة الرب يسوع في الجسد(2).

وفي قصة تلميذي عمواس، نرى صورة حية للعلاقة بين العهدين، وكيفية تحقيق النبوَّة في العهد الجديد، وكيف أن يسوع نفسه وآلامه وقيامته كانت محور شهادة جميع الكتب المقدسة: الأنبياء والمزامير، والتي بدأ الرب يشرحها للتلميذَين كما وردت في إنجيل القديس لوقا: «ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ» (24: 27). وهكذا يظهر لنا وكأن العهد القديم بجملته قد صار نبوَّةً عن العهد الجديد، أو كتابة نبوية عنه (انظر: 2بط 1: 19و20).

الخلاصة: أن العهد القديم بنبواته، كان هو الشاهد ليسوع، حسب ما ورد في سفر الرؤيا بأن: «شَهَادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ النُّبُوَّةِ» (19: 10). ثم أنارت النبوة في العهد الجديد لتؤكد هذه الشهادة وتحققها في شخص الرب يسوع وتعترف به ربًّا ومخلِّصًا إذ يقول يوحنا الرسول: «كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ» (1يو 4: 2). وصارت الشهادة والإيمان بتجسُّد المسيح وفدائه وموته وقيامته هي الأساس الأول للحكم على صدق النبوَّة في العهد الجديد.

النبوَّة والحكم الروحي (التمييز) في العهد الجديد:

موهبة النبوَّة في العهد الجديد لا تقف عند حدود كشف الأزمنة الآتية: «وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ» (يو 16: 13)، كما يظهر في سفر الرؤيا على سبيل المثال، بل إنها تتجاوز ذلك إلى أمور أخرى هامة، فهي تدخل لتصير أداة في يد الروح القدس لكشف أسرار النفوس وتفتيش الضمائر، كما يتضح من الرسائل إلى ملائكة الكنائس السبعة (أساقفتها) المسئولين عنها (انظر: سفر الرؤيا)، بل إن دور النبوَّة يتعدَّى ذلك بقدرتها (بسلطان الروح) على كشف أسرار الله، حسب القول: «لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ» (1كو 2: 10)(3).

النبوَّة إذًا موهبة هامة وضرورية في الكنيسة، لأنها موهبة كاشفة ودافعة للتوبة، إذ هي تكشف خفايا النفوس وتُبكِّت الضمائر. ولكن يُلاحَظ أن قدرة النبي على الشرح والتفسير والتمييز تكون محدودة بمنطوق نبوَّته أو رؤيته فقط، وهي التي تسود على قدرته في الشرح والبيان، علمًا بأن عقل النبي وحواسه تكون في كامل وعيها وقدرتها على تبادل الشعور والحديث والفهم مع سامعي النبوَّة، بعكس موهبة التكلُّم بالألسن التي تنشغل فيها حواس المتكلِّم بالكامل بالحديث مع الله. والرسول بولس يضع موهبة النبوَّة في مرتبة أعلى من التكلُّم بألسنة بقوله: «لأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ» (1كو 14: 5).

مما سبق يمكننا إدراك أن موهبة النبوَّة تحتاج لجهد كثير لشرحها وإيضاحها (كما في سفر الرؤيا)، وأيضًا تحتاج إلى تمييز وانضباط للحكم عليها، وربما لا يتسنَّى ذلك بسهولة، كما أوضح الرسول بولس عند اختطافه إلى الفردوس بأنه: «... سَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا» (2كو 12: 4). لذلك دبَّر الروح القدس لموهبة النبوَّة موهبة أخرى مساعدة ومكمِّلة وضابطة - لأجل بناء الكنيسة - تكون مُلحقة وتالية دائمًا لهذه الموهبة، وهذه الموهبة المعِينة والضابطة هي موهبة التمييز والحكم الروحي. فالروح القدس إذ يعلم أن عقل النبي يكون مأخوذًا بقوَّة بتأثير الإلهام أكثر من الفهم، إذ هو يتكلَّم عن أمور تفوق العقل ويكشف مستورات الزمان والضمائر، فإنه يكون حينئذ أقل ضبطًا للتعبيرات والكلمات، لذلك صار من المهم أن يكون هناك في الكنيسة رقيب روحي على كلماته، فصارت موهبة تمييز الأروح ضرورةً للحكم على موهبة النبوَّة، وذلك بهدف ضمان وضع موهبة النبوَّة في مكانها الصحيح، وإمكانية الحكم على صدق النبوَّة والنبي أيضًا. لذلك نرى الروح القدس يشدِّد على هذا المعنى بالقول: «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ امْتَحِنُوا الأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟» (1يو 4: 1)، ويدعو إلى تمييز الأرواح : «... وَلآخَرَ نُبُوَّةٌ، وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ ...» (1كو 12: 10)، وأيضًا: «لاَ تُطْفِئُوا الرُّوحَ. لاَ تَحْتَقِرُوا النُّبُوَّاتِ. امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ» (1تس 5: 19-21)، «وَلآخَرَ عَمَلُ قُوَّاتٍ، وَلآخَرَ نُبُوَّةٌ، وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ، وَلآخَرَ أَنْواعُ أَلْسِنَةٍ، وَلآخَرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ. وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ، قَاسِمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ كَمَا يَشَاءُ» (1كو 12: 10و11)، «أَمَّا النُّبُوَّةُ فَلَيْسَتْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ» (1كو 14: 22)، «وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيَبْنِي الْكَنِيسَةَ» (1كو 14: 4).

أخيرًا نقول إن موهبة النبوَّة في العهد الجديد، كانت ممهِّدة إلى موهبة أخرى عظيمة في الكنيسة، وهي موهبة التعليم، ولم توجد هاتان الموهبتان - في كثير من الأحيان - منفصلتَين، بل كثيرًا ما نرى النبي وهو تحت تأثير الإلهام الروحي ينطق بتعاليم وإنذارات وتوبيخ أحيانًا، ومرَّات بكلمات تعزية وطمأنينة للشعب أحيانًا أخرى: «عَزُّوا، عَزُّوا شَعْبِي، يَقُولُ إِلهُكُمْ» (إش 40: 1).

لقد احتلَّت موهبة النبوَّة مع موهبة التعليم مكانة سامية جدًّا في الكنيسة، لاسيما في بداية العصر الرسولي، وإليهما يعود الفضل الكثير فيما صارت إليه الكرازة والإيمان بالإنجيل في بداية العهد الجديد، وصار المعلِّمون والأنبياء مسئولين عن الإنذار والتوبيخ ومقاومة أي انحراف إيماني أو سلوكي في الكنيسة(4).

(يتبع)

__________________________________

(1) معجم اللاهوت الكتابي صفحة 802.

(2) معجم اللاهوت الكتابي ص 803.

(3) المواهب الكنسية: الأب متى المسكين ص 13و14.

(4) المواهب الكنسية: الأب متى المسكين ص 22و23.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis