ادخل إلى العمق


- 19 -
كنوز روحية من رموز العهد القديم
البركة في حياة الآباء


معنى كلمة البركة ومفهومها:

من أكثر التعبيرات الكتابية التي ورَدَ ذِكرُها في الكتاب المقدَّس - خاصة في العهد القديم - كلمة ”البركة“ ومشتقَّاتها. وفضلًا عمَّا تحمله هذه الكلمة من غنًى ومعانٍ روحية ومادِّية كثيرة، فقد كان لها نصيب كبير من الاهتمام والتوقير من جانب الإنسان على مرِّ العصور. وتأتي كلمة ”البركة“ من الكلمة العبرية: ”بَرَكَ“، وهي تفيد الركوع على الركبتين أو السجود، تعبيرًا عن الاتضاع والخضوع لنَيْل عطية أو نعمة معيَّنة، مثلما ينحني (يبرك) الحيوان على ركبتيه ليستقي الماء من البِركة ليحيا بها! ويختلف معنى "البركة" تبعًا للقرينة المنسوبة إليها، فهي التي تحدِّد طبيعة هذه البركة الممنوحة إن كانت وقتيَّة وزمنية ومادية أم روحية. فالبركة عطيةٌ من الله لخليقته تُظهِر عظمة سخاء الله وخيريَّته على هذه الخليقة. فقد وهبها الله في البدء بفمه الإلهي، ومنحها للمخلوقات الحيَّة عند خلقتها بصفة عامة (راجع: تك 1: 22)، ثمَّ وهبها للإنسان بصفة خاصة، معضَّدة بسلطانٍ إضافي عن بقية المخلوقات (راجع: تك 1: 28). ثُمَّ تسلسلت البركة كميراث مُعطى من الله للإنسان الأوَّل يمنحها لنسله وأبنائه من بعده، ومن الكبير إلى الصغير، إذ يشير إليها بولس الرسول بقوله: «وَبِدُونِ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ: الأَصْغَرُ يُبَارَكُ مِنَ الأَكْبَرِ» (عب 7: 7). وبعد ذلك انتقلت البركة من مرحلة التسلسل الأبوي والقِبَلي ووُكِّلت إلى أبناء هارون، كممثِّلين لقوة ونعمة الكهنوت المُعطَى لهم من الله.

كذلك أَسْبَغَ الله البركة على بعض الأشياء والأزمنة والأماكن، مثلما بارك اليوم السابع بغرض تكريسه وتخصيصه (راجع: تك 2: 3). وتمثَّلت صور البركة الموهوبة للإنسان في وعود الخير والشبع والخصب والكثرة والنموِّ وفي القوة والنُّصرة وخلافه. وكانت تحمل في ثناياها قوة وأمانة واهبها الحقيقي، الذي هو الله نفسه، حتى تحقَّق تمامها وغرضها الأساسي والرئيسي في المسيح يسوع، ببركة الخلاص والفداء الذي تمَّمه للبشر حسب وعد الربِّ لإبراهيم سابقًا: «وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ» (تك 18:22)، والذي تحقَّق بقول بولس الرسول: «الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ» (أف 1: 3).

وسوف نعرض في هذا المقال بعض التأملات في تلك البركات التي أُعطِيت في العهد القديم لبعض الآباء، والمعاني الروحية التي يمكننا أن نخلص بها منها.

البركة في العهد القديم:

يعتبر تاريخ إسرائيل كلُّه تاريخ البركة لشعبٍ ينتمي لله، مصدر وواهب النِّعم والعطايا والبركات، كما يُعدُّ سفر التكوين هو النموذج الأوضح لتوثيق وتسجيل هذه البركات. فالإنسان المُبارَك هو دائمًا إنسان مرتبط بالله، ومهيأ لإعلان سخاء الله ووجوده الذي لا ينضب في حياته، لذلك نرى أن الارتباط بالله وطاعته كانا هما المدخل السري العجيب لنَيْل بركات الله في العهد القديم، سواء كانت مادية أو روحية من حيث إمكانية تلقِّيه لمواعيد البركة والخلاص والنُّصرة والفداء المزمعة أن تأتي في أوقاتها المحدَّدة من الله.

لذلك نستطيع أن نقول إنَّ الطاعة والعبادة والخضوع تحت يد الله القويَّة وحفظ وصاياه كانت هي الإطار والوسيلة البسيطة لاستمطار بركات ومراحم الله للإنسان، حتى البركات المنطوقة على لسان إنسان سواء كان رسولًا أو نبيًّا أو مرسلًا من الله، مثل ملكي صادق الذي بارك إبراهيم بقوله: «مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ» (تك 14: 19)، وكما باركت أليصابات مريم في العهد الجديد قائلة: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ!» (لو 1: 42). كذلك يُنبِّهنا سفر التثنية إلى أهمية حفظ وصايا الله وعهوده كشرطٍ لنَيْل بركاته الممنوحة، وإلَّا وقعت اللعنة على المخالفين: (انظر: تث 28). وتذخر كلُّ أسفار العهد القديم - لا سيما التي تسرد حياة الآباء - بدعوات البركات الزمنية من حيث كثرة النسل، وخصوبة وخير الأرض، ونزول الأمطار، والشفاء من الأوبئة والأمراض، والنصرة على الأعداء وغيرها، كمثال ورمز لما يبتغيه الله لخليقته التي أحبَّها من خيرٍ وسعادةٍ وفرحٍ، في إطار إيمانها به وطاعتها له وتقوى سيرتها. ومع ذلك لم تخلُ هذه البركات الزمنية للآباء من رموز رائعة وإشارات نبويَّة ملهَمة لهبات روحية مجيدة سوف تتحقَّق في ملء الزمان في شخص المسيَّا المنتظر (الرب يسوع)؛ مثل الوعد لأبينا إبراهيم: «وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ» (تك 22: 18)، وهو ما يشير إلى تجسُّد الربِّ من نسل إبراهيم.

كيف يبارك الإنسان الله؟

وما هي بركة الإنسان للإنسان؟

عندما نقرأ أنَّ إنسانًا يُبارِك الله، علينا أن ندرِك أنَّ البركة هنا تعني الاعتراف بكرم الله وجوده، وتقديم الشكر والحمد له: (انظر: رو 1: 21؛ أي 29: 13؛ مز 72: 13-16). فمباركة الإنسان لله هي في الحقيقة إعلان شكر وشهادة تقدير مرفوعة من الإنسان لواهب البركة ومنبعها ومعطيها، وتمثِّل الاعتراف العلني بالعظمة والقدرة الإلهية. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى المدوَّنات (أناشيد البركة) المسجَّلة في العهد القديم، كونها الجواب الإنساني بالحمد والتسبيح على أعمال الله وعطاياه، كما صنعت مريم النبيَّة قديمًا، وكما فعل داود النبي مراتٍ عديدة: (انظر: خر 15: 21، مز 31: 22، مز 103: 2). كذلك يرد في العهد الجديد في سفر الرؤيا هتاف جمهور الأمم والقبائل أمام عرش الله قائلين: «آمِينَ! الْبَرَكَةُ وَالْمَجْدُ وَالْحِكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ لإِلهِنَا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ!» (رؤ 7: 12). فالجواب الإنساني بإظهار مشاعر الشكر والامتنان على بركات وصنائع الربِّ معه، تترجمها هذه الأناشيد كتسبيح صاعد إلى العلاء - حيث عرش الله - مقابل فيض النعم المنهمر عليه من السماء من عند أبي الأنوار، والتي تكمَّلت لنا أخيرًا في شخص يسوع مخلِّصنا (انظر: يع 1: 17).

أمَّا عن نُطق إنسان بالبركة لمباركة إنسان آخر، فقد كان الآباء ينطقونها بثقتهم أنها ميراث حيّ معطى من الله نفسه واهب البركة، وهم ليسوا سوى أدوات لنقل هذه البركة للآخرين. فنرى إسحق يبارك ابنه يعقوب بقوله: «... وَيُعْطِيكَ بَرَكَةَ إِبْرَاهِيمَ لَكَ وَلِنَسْلِكَ مَعَكَ» (تك 28: 4)، وذلك بعد أن قال له أولًا: «وَاللهُ الْقَدِيرُ يُبَارِكُكَ، وَيَجْعَلُكَ مُثْمِرًا...» (تك 28: 3)؛ كما نرى أمر هذه البركة عندما بارك لابان رفقة قبل سفرها إلى إسحق (راجع: تك 24: 60). وهذا يؤكِّد أنَّ هؤلاء الآباء كانوا يدرِكون أنَّ الله هو مانح البركة، وأنَّهم ينطقون بها باسم الربِّ ختمًا لصدق مواعيده الأمينة لهم ولنسلهم، وشهادة لإيمانهم بالله.

وفيما يلي نعرض لبعض الأمثلة من الآباء الذين نالوا البركة في العهد القديم، ملمِّحين إلى أسرار ومفاتيح حصولهم عليها، مشيرين إلى رمزية الطريقة التي نالوا بها هذه البركات:

1 - إبراهيم والبركة:

* نال إبراهيم البركة من الله بسبب إيمانه الرائع والعظيم به؛ فعندما دعاه الله ليخرج من أرضه وعشيرته ليتغرَّب، أطاع وخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي (انظر: عب 11: 8، 9)، فحُسب له إيمانه برًّا.

* نال إبراهيم كلَّ البركات وأعظم المواعيد، وجعله الله مباركًا وسبب بركة من أجل ثقته فيه ومحبته له، إذ إنَّه لم يُمْسِك ابنه وحيده عنه، بل كان مزمعًا أن يقدِّمه محرقة، طاعة لله وثقة في صدق مواعيده، رغم أنَّ الله وعده أنه بإسحق يصير له نسلٌ، حاسبًا أنَّ الله قادر أن يقيمه من الموت وأن يتمِّم ما وعده به. وهو بإيمانه العظيم هذا نال كل البركات المادية والروحية، وصار أبًا بالجسد للمسيح! كما أصبح أيضًا عِبرةً ومثالًا لنا في عظمة الإيمان، الذي هو أعظم مفاتيح البركة من الله، إذ يقول الكتاب: «وَلكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ» (عب 11: 6).

2 - إسحق والبركة:

* إسحق يمثِّل نموذج الاتضاع والطاعة والشكر، إذ إنَّه لم يقاوم أباه أو يعترض عندما همَّ أن يقدِّمه محرقة! فصار مثالًا للمسيح المخلِّص الذي أطاع حتى الموت، موت الصليب. وامتدت بركة إبراهيم إلى إسحق لتشمله بكل خيراتها، وآمن إسحق بهذه البركة وكرَّمها، ويظهر ذلك في بركته لابنه يعقوب بقوله: «وَيُعْطِيكَ بَرَكَةَ إِبْرَاهِيمَ لَكَ وَلِنَسْلِكَ مَعَكَ» (تك 28: 4).

* تحقَّق أيضًا في إسحق وعد ميراث البركة (بإسحق يدعى لك نسل)، لأنه بخضوعه لمشيئة أبيه رجع حيًّا في إشارة رمزية رائعة عن قيامة المسيح من بين الأموات. هذا فضلًا عن نَيْله خيرًا كثيرًا أيضًا في حياته بسبب طاعته؛ إذ يقول الكتاب عنه: «وَزَرَعَ إِسْحَاقُ فِي تِلْكَ الأَرْضِ فَأَصَابَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِئَةَ ضِعْفٍ وَبَارَكَهُ الرَّبُّ» (تك 26: 12).

3 - يعقوب والبركة:

* يمثِّل يعقوب نموذج الجهاد والصراع من أجل البركة، وهي شهادة على كرامة مكانتها عند الآباء إذ كانوا يدركون أنَّ مُعطيها هو الله. فقد سعى إليها يعقوب تقديرًا لقيمتها وثقة في واهبها، وصارع الملاك ليقتنيها: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي» (تك 32: 26)، ورغم التجائه لمسْلك بشري وتحايل لينالها من أبيه - الأمر الذي كلَّفه الكثير من المعاناة في حياته - إلاّ أنَّ الله لم يحرمه منها متجاوزًا عن ضعفه من أجل إيمانه وجهاده وإكرامه لهذه البركة.

* وقوف فرعون مصر العظيم وانحناؤه أمام يعقوب الشيخ الضرير والمُسِن ليمنحه البركة، يُعَدُّ منظرًا عجيبًا جديرًا بالتأمُّل، وصار شاهدًا على قول الكتاب المقدَّس لنا: «لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ» (2كو 12: 9)، وأيضًا: «بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي، وَلاَ يَزِيدُ مَعَهَا تَعَبًا» (أم 10: 22)، وأيضًا: «كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ» (2كو 6: 10).

* بارك يعقوب ابنيْ يوسف واضعًا يديه متقاطعتين على رأسَيهما على مثال الصليب - وكأنَّه يشير بالروح إلينا أن الصليب سيصير سرَّ بركة الجميع، وكلُّ من يحتمي بعلامة الصليب ينجو ويتبارك. لهذا نرى الآباء الكهنة يقاطعون ذراعيهم على مثال الصليب عند اختيار الحمل، ويستخدمون الصليب للصلاة والبركة على الجميع.

4 - يوسف والبركة:

* أوصى يوسف - الذي نال البركة من أبيه يعقوب - من أجل عظامه. لأنَّ الذي يباركه الربُّ في حياته لا بد أيضًا أن يكون مباركًا في موته. فهو بروح الإيمان أوصى من أجل عظامه، منبِّهًا أذهاننا لعدم الاستهانة بعظام وأجساد القديسين، وضرورة الثقة في شفاعتهم، حتى بعد انتقالهم (مثل عظام أليشع النبي التي أقامت ميتًا بمجرد لمسها: راجع: 2مل 13: 21).

5 - موسى والبركة:

* موسى الرجل الأمين والزاهد، ورجل الإيمان العظيم الذي استهان بكلِّ أمجاد وغنى مصر وكنوزها، وارتضى أن يُذلَّ مع شعب الله، حاسبًا عار المسيح أفضل من خزائن مصر: (انظر: عب 11: 26)، هذا باركه الله وأعطاه أن يعاين ما لا يمكن تصديقه، بعبور البحر الأحمر، ووقوف الماء أمامه، وكلِّ أعمال الله العظيمة التي أجراها على يديه في أرض مصر وفي البرِّية، وأعطاه المثال لكي يصنع خيمة الاجتماع، وأن يقدِّم الفصح، الذي كان رمزًا للمسيح الحمل الحقيقي، ووهبه أن يُجري الكثير من رموز الخلاص والفداء المزمع أن يتمَّ في ملء الزمان. بل وشهد عنه كلُّ الأنبياء بأنه أعظمهم وأجلُّهم مكانة وقدرًا. وأخيرًا شرَّفه الرب بظهوره معه على جبل التجلِّي.

أخيرًا نقول؛ إنَّ هؤلاء جميعًا قد نالوا بركات كثيرة من الله وشُهد لهم بالإيمان والطاعة والمحبة والشكر، لكنهم لم ينالوا المواعيد مثلنا، بل نظروها وحيُّوها من بعيد ثمَّ رقدوا على الرجاء، لكي لا يُكمَلوا بدوننا (راجع: عب 11: 13، 40). فلنبارك الربَّ لأنَّ إلى الأبد رحمته آمين.

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis