من تاريخ كنيستنا
- 189 -


الكنيسة القبطية في القرن العشرين
البابا يوأنس التاسع عشر
البطريرك الثالث عشر بعد المائة
في عداد بطاركة الكرسي الإسكندري
(1928 م - 1942 م)
-4 -


«وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»
(مت 16: 18)



كنَّا قد توقفنا في مقالتنا السابقة (مايو 2021) على نياحة البابا كيرلس الخامس (7 أغسطس 1927م)، واجتماع المجمع المقدَّس واستقرار الرأي على اختيار الأنبا يوأنس مطران البحيرة والمنوفية ووكيل الكرازة المرقسية ليكون قائم مقام البطريركية لإدارة شئون الكنيسة لحين رسامة بطريرك.

وعقب ذلك اجتمعت المجالس الملية الفرعية والمجلس الملي العام وقرروا الموافقة على قرار المجمع المقدَّس ورفعت قرارها للحكومة فصدر الأمر الملكي في 16 ديسمبر باعتماده نائبًا بطريركيًّا لمدة ستة أشهر.

ولمَّا لم يتم انتخاب البطريرك في هذه المدة، صدر أمر ملكي آخر بتاريخ 18 يونيو 1928 بأن يظل الأنبا يوأنس نائبًا بطريركيًّا لمدة شهرين آخرين، ثم صدر أمر ثالث بامتداده شهرًا وأمر رابع لمدة أربعة أشهر. وكانت المدة كلها سنة وأربعة أشهر.

وفي أثناء المدة التي أقامها نائبًا بطريركيًّا وضع قانونًا نظاميًّا للأديرة، ومن ضمنه أن يعود الرهبان الذين في المدن والكنائس العلمانية إلى أديرتهم لينقطعوا للتعاليم الدينية والعبادة ولا يبقى منهم إلَّا من تقضي الضرورة بوجوده في البطريركية أو بعض المطرانيات. وذلك محافظة على شرف الرهبانية. مع عدم رسامة أي كاهن علماني إلَّا إذا كان من خريجي المدرسة الإكليريكية. ولا يتقدم للوعظ بالكنائس والمجتمعات إلَّا كل واعظ مشهود له بحسن السيرة والاستقامة.

وقد وُفِّق في حل مشكلة أوقاف الأديرة التي كانت سببًا في دوام النزاع بين المجالس الملِّية والإكليروس، وذلك بأن تتولى إدارة الأوقاف المذكورة لجنة برياسة وعضوية اثنين من حضرات المطارنة يختارهما النائب البطريركي وأربعة من أعضاء المجلس الملي العام يختارهم المجلس. وتكون مهمة هذه اللجنة مراجعة حسابات هذه الأوقاف، والعمل على ترقية شؤون الرهبان، وإصلاح حالة الأديرة. وفي آخر كل سنة ترفع اللجنة تقريرًا مُفصلًا بأعمالها إلى المجلس الملي العام. وقد صدَّقت وزارة الداخلية على هذا القرار في 19 نوفمبر 1928.

وعندما انتهت مدة نيابته قد صار انتخابه بطريركًا بإجماع رجال الإكليروس وبأغلبية كبار الطائفة، رغم بعض المعارضات التي حدثت من بعض أبناء الطائفة، ممَّا لا تخلو منه أي جماعة في مثل هذه الأحوال، لتباين الأغراض وتشعب المشارب. وقد صدر الأمر الملكي بتاريخ 9 ديسمبر سنة 1928 باعتماد غبطته بطريركًا. وأُقيمت حفلة رسامته بكاتدرائية الأقباط بالدرب الواسع بمصر في صباح الأحد 7 كيهك ش، 16 ديسمبر 1928م، وكانت من أعظم الحفلات. وقد حضرها صاحب الدولة توفيق نسيم باشا نائبًا عن جلالة الملك، وبعض أصحاب السمو الأمراء وأصحاب المعالي الوزراء وحضرات الأعيان وكبار رجال الطائفة. وقد تمت الحفلة والمراسيم الدينية بغاية النظام.

وكان أول أعماله إنشاء مدرسة لاهوتية للرهبان بحلوان، وإصلاح الدار البطريركية بمصر... ومما يُحمد عليه غبطته إشرافه الفعلي على أحوال الطائفة، وتصريف الأمور بكل حكمة وروية، وزيارته للأديرة سنويًّا، مما بعث فيها روح النشاط والإصلاح. كذلك تبرعاته بسخاء للجمعيات الخيرية القبطية وبناء الكنائس وإنشاء مدارس، إلى غير ذلك من الأعمال المفيدة لشعبه.

العلاقة مع كنيسة أثيوبيا

اعتنقت أثيوبيا المسيحية في القرن الرابع عن طريق حكامها، ثم انتشرت المسيحية بعد ذلك بين أفراد الشعب ببطء شديد. ومن ثم فقد كان ارتباط الكنيسة الأثيوبية الناشئة بالكنيسة المصرية عن طريق حكامها، فهم الذين يبلغون الأخيرة بوفاة المطران القبطي ويطلبون غيره من رجال الدين الأقباط.

في سنة 1929 أتى وفد من أثيوبيا يحمل رسالة من الإمبراطورة زوديتو والملك تفري (الإمبراطور هيلاسلاسي فيما بعد) يطلبان فيها من قداسة الأنبا يوأنس أن يرسم لشعبهما مطرانًا قبطيًّا تبعًا للتقاليد، ولكنهما طلبا – خلافًا للتقليد – رسامة أربعة رهبان أثيوبيين تم اختيارهم ليكونوا تحت رياسة المطران لمعاونته في أعماله الرعوية. كان الوفد مؤلَّفًا من وزيري المالية والمعارف وبصحبتهما الرهبان الأربعة. وتقابل الوفد مع البابا يوأنس وأبلغوه برغبة الإمبراطورة والملك في هذا الطلب، وتشاوروا مع قداسته في شخصية من سينال كرامة الرياسة العليا على الكنيسة الأثيوبية.

وبعد مداولات قصيرة وقع الاختيار على الراهب القمص سيداروس الأنطوني، وقال البطريرك في الخطاب الذي أرسله مع الوفد الأثيوبي إلى الإمبراطورة: [... لقد وقع اختيارنا على الراهب العابد الناسك التقي المتحلي بالفضائل القمص سيداروس الأنطوني، وأقمناه مطرانًا للمملكة الحبشية باسم الأنبا كيرلس...]. وقد حاول الراهب الاعتذار متحججًا مرَّة بأنه لا يعرف القراءة والكتابة، ومرَّة أخرى بجهله الطقوس الدينية، ولكن أمام إصرار قداسة البابا لم يجد غير الهرب، وبعد بحثٍ وتقصٍ عثروا عليه، ولكنه أخذ يتوسل للذين عثروا عليه أن يساعدوه ويتوسَّطوا لدى البابا كي يعفيه من الرسامة، ونتيجة إلحاحه وَعَدُوه بأنهم سيتوسطوا له! وكان البابا قد اتفق مع المطارنة الذين سيشتركون معه في الرسامة بأنه بمجرد دخول الراهب سيداروس، وقبل التفوُّه بأية كلمة، سيضع الصليب على رأسه مباشرة، وبذلك يتقيَّد ويضطر خضوعًا للصليب أن يبقى وينال الرسامة. وهذا ما تم فعلًا، ولم يملك الراهب الزاهد غير دموعه فسكبها غزيرة.

وتمت الرسامات للأب المطران الأنبا كيرلس والآباء الأساقفة الأحباش في احتفال مهيب صباح الأحد 2 يونيو 1929 حضره أعضاء المجمع المقدَّس والمجلس الملي وكبار رجال الدولة المصرية وسفراء الدول ورؤساء الكنائس المختلفة. ولم يبقَ الأنبا كيرلس والأساقفة الأثيوبيون في مصر بعد ذلك غير اثني عشر يومًا، حيث غادروها إلى أثيوبيا ...

ورغبة من البابا يوأنس في تفقد حالة أبنائه الأحباش وتوطيدًا للعلاقات الودية وتوثيقًا لعرى المحبة بين الكنيستين القبطية والحبشية، والشعبين المصري والأثيوبي أراد غبطته زيارتهم، فأبحر من بورسعيد في 25 ديسمبر 1929 باحتفال عظيم اشترك فيه الشعب والحكومة، ووصل أولًا إلى جيبوتي ومنها سافر إلى أديس أبابا، ليستقبله هناك الملك ورجال حكومته وقناصل الدول وكبار رجال الشعب الحبشي. وأعدت الحكومة برنامجًا لإقامة غبطته مدة سبعة عشر يومًا، ولكن بسبب تغيير حالة المناخ هناك، مرض قداسته وعزم على العودة قبل هذا الميعاد. وفعلًا وصل إلى مصر في 19 يناير 1930. وفي 27 منه حظى بمقابلة ملك مصر وأبلغ جلالته تحيات صاحبي الجلالة الإمبراطورة زوديتو والملك تفري، لأفراد الأسرة المالكة وللشعب المصري. وبسط على مسامعه ما كان لزيارته من عظيم الأثر في نفوس الأحباش. وشكر جلالة الملك البابا يوأنس على تجشمه المتاعب مع شيخوخته حبًّا في دوام الوئام بين الأمتين.

وبمجرد عودة البابا يؤنس من رحلته البطريركية لبلاد الحبشة قام بعمل الميرون، إذ رأى الحاجة ماسة إليه، والموجود منه لا يفي طلبات الإبروشيات العديدة التابعة لكرسيه الرسولي، حيث كانت آخر مرة تم فيها عمله منذ أكثر من مائة عام أيام البابا بطرس المائة والتاسع، وصار ذلك في الصوم الكبير سنة 1646 ش، 1930م.

وتنيح البابا بشيخوخة صالحة في 21 يونيو 1942 الموافق 14 بؤونة 1658 ش، بعد أن أقام على الكرسي البطريركي 13 سنة و6 أشهر.

المراجع

1-قصة الكنيسة القبطية ج 6: إيريس حبيب المصري.

2-الكنز النفيس في الرحلة البطريركية وعمل الميرون المقدَّس: القمص دوماديوس البرموسي.

3-تاريخ مصر من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويروس بن المقفع الجزء الرابع، المجلد الثاني: عبد العزيز جمال الدين.

4-الاستقلال الذاتي لكنيسة أثيوبيا: أنتوني سوريال عبد السيد.

5-وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها (منذ عام 150م حتى عام 1981م): القمص أنطونيوس الأنطوني.

(يتبع)

_
This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis