مفاهيم كنسية



رؤية كتابية لقضية الفقر والغِنَى
(3)
عن خدمة وتعليم الرسل


كما عرضنا من قبل (مرقس، يونيو وسبتمبر 2021)، احتضن الرب الفقراء والمساكين وتبنَّى قضيتهم وعاش مثلهم. وفي تعليمه انحاز للجوعى والعطاش والعرايا والمرضى والسجناء والغرباء المشرَّدين ودعاهم إخوته الأصاغر، وشاركهم الاضطهاد والآلام. وحذَّر الرب مؤمنيه من محبة العالم والمال والطمع، وطالبهم أن يمدُّوا يد العون للجميع، وأن يسدُّوا احتياجات الفقراء لأنهم يخدمون الرب نفسه، وأن تعبهم هذا لن يكون منسيًّا وسيُذكَر لهم في اليوم الأخير.

على مثال السيد - فإن تلاميذه ورسله، في كرازتهم بالإنجيل، بشَّروا بما رأوه وسمعوه وتعلَّموه، ومارسوه في خدمتهم وتعليمهم فيما يتعلَّق بأمور الفقر والغِنَى، كما جاء في سفر الأعمال ورسائل الرسل.

* عن خدمة وتعليم الرسول بولس:

منذ أن اختارته النعمة وتحوُّله من مضطهد للكنيسة إلى كارز بالرب وإنجيله، عاش القديس بولس كسيده متجرِّدًا متضعًا محتملًا للآلام من أجله ومن أجل الإيمان، ولكنه في نفس الوقت كان غنيًّا قويًّا مجاهدًا منتصرًا بالنعمة التي أفاضها الرب عليه، فكان افتخاره أن يكون عبد يسوع المسيح وأسيره ورسوله. وعن معاناته كتب مرة للكورنثيين المتعالين المقاومين: «نَحْنُ ضُعَفَاءُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَقْوِيَاءُ! أَنْتُمْ مُكَرَّمُونَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَبِلاَ كَرَامَةٍ! إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ، وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا ...» (1كو 4: 10-12)، (اقرأ أيضًا: 2كو 6: 4، 5، 9، 10؛ 2كو 11: 23-27، 12: 7-10).

أ. عن خدمة الفقراء:

كالفقراء والمهمَّشين الذين أحبهم، جاز القديس بولس كل معاناتهم فقرًا واحتياجًا واضطهادًا بل تعذيبًا وسجنًا. وهو جعل خدمتهم في صدر أولويات رسالته، حتى إنه وهو يكتب عن أول اجتماع له في أورشليم مع تلاميذ الرب يعقوب وبطرس ويوحنا «الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ» يقول: «أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ، وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ» (غل 2: 9، 10). ففي هذا الاجتماع الكبير لتوزيع الخدمة وجدت خدمة الفقراء لها موقفًا، واتفق هذا الأمر أيضًا مع ما استقر في قلب القديس بولس، وهو كان يسميها خدمة القديسين، تعبيرًا عن توقيره لهم كإخوة المسيح، كما كان يرى في خدمتهم نعمةً وبركةً فائضة (2كو 8: 1، 4، 6، 12، 9: 5).

وهكذا كان لا يفتأ يضمِّن رسائله حثًّا على الجمع للقديسين (1كو 16: 1-4، 2كو 8: 1-15، 9: 1-15). ويمتدح كل مَنْ يسهم في هذه الخدمة، كما كتب عن بيت استفاناس باكورة أخائية الذين «رتبوا نفسهم لخدمة القديسين» ويطلب من مؤمني كورنثوس أن يخضعوا «لِمِثْلِ هؤُلاَءِ، وَكُلِّ مَنْ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيَتْعَبُ» (1كو 16: 15، 16).

وفي نفس الوقت حثَّ القديس بولس الفقراء القادرين على العمل أن ينالوا بركته وكرامته كي يعطوا هم أيضًا غيرهم، وألَّا يركنوا إلى التواكل والاعتماد على المساعدات، ودان المتكاسلين المتنطعين منهم بكلمات شديدة وكيف أنه قدم نفسه لهم قدوة لكي يتمثلوا به في أنه لم يأكل خبزًا مجانًا من أحد بل كان يشتغل بتعب وكد ليلًا ونهارًا لكي لا يثقِّل على أحد، رغم أنه كخادم للرب لم يكن مضطرًا إلى ذلك. ووضع قانونًا صارمًا: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا»، وأن على هؤلاء الفضوليين « أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ» فلا يكونوا عالة على أحد (2تس 3: 7 - 12).

ب. عن الأغنياء:

أشار القديس بولس في رسائله كثيرًا إلى غِنى الله غير المحدود، وأنه إن كان الرب قد جاء فقيرًا لكي يعطي كرامة للفقراء والمعوزين ويملأهم بالغنى الحقيقي، فالله هو مصدر كل الخيرات و«الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنَىً لِلتَّمَتُّعِ» (1تي 6: 17)، وأن سر قوة المؤمن هو اتكاله على إلهه الغني الذي «تُشْبِعُ كُلَّ حَيٍّ رِضىً» (مز 145: 16)، وأن الخادم الحقيقي وإن بدا خالي الوفاق من المال، فإن كلمة الله التي يُقدِّمها تُغني الكثيرين، إن عملوا بها، نعمةً لا تُقدَّر بمال «لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنَىً» (كو 3: 16)، إن الغِنَى الحقيقي ليس في الأموال ولكن في نعمة الله وبركته التي يفيض بها على المكتفين وأن الذي يعطي بسخاء ينال بأكثر بما لا يُقاس مما أعطى (2كو 9: 6):

* «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو 8: 9)؛

* «غِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى» (أف 3: 8)؛

* «فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في 4: 19)؛

* «غِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ» (رو 2: 4)؛

* «يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاِسْتِقْصَاءِ!» (رو 11: 33)؛

* «اللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ» (أف 2: 4، 5)؛

* «الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أف 1: 7).

+ حث القديس بولس المؤمنين على القناعة والشعور بالاكتفاء، محذرًا من الطمع أو الاتكال على المال. فالمكتفي بما عنده إناؤه دائمًا ممتلئ «بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي، وَلاَ يَزِيدُ مَعَهَا تَعَبًا» (أم 10: 2)، وهكذا يشعر دومًا أنه غني وقادر أن يعطي كثيرًا «كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ، كَأَنَّ لاَ شَيْء لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ» (2كو 6: 10)(1) . أمَّا الغَنِيُّ الشَّرِه الذي لا يشبع من الأخذ ويصعب عليه أن يعطي ويتحكم فيه الطمع، فهو مهما أخذ يظل يشعر بالاحتياج وإناؤه لا يمتلئ أبدًا، كمَنْ يشرب من ماء البحر فلا يرتوي أبدًا. فهو فقير مهما امتلأت خزائنه. فالفقير المكتفي غنيٌّ والغنيُّ الطامع فقيرٌ أبدًا:

* «وَأَمَّا التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ. لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ، فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا» (1تي 6: 6-8)؛

* «تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ ... تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ» (في 4: 11 و12)؛

* «أَوْصِ الأَغْنِيَاءَ فِي الدَّهْرِ الْحَاضِرِ أَنْ لاَ يَسْتَكْبِرُوا (فالكبرياء هي إحدى تداعيات الغِنَى بعيدًا عن الله) وَلاَ يُلْقُوا رَجَاءَهُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينِيَّةِ الْغِنَى، بَلْ عَلَى اللهِ الْحَيِّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنَىً لِلتَّمَتُّعِ. وَأَنْ يَصْنَعُوا صَلاَحًا، وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ (الغِنَى الحقيقي)، وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي الْعَطَاءِ، كُرَمَاءَ فِي التَّوْزِيعِ (فيصير غِناهم بركة لله)، مُدَّخِرِينَ لأَنْفُسِهِمْ أَسَاسًا حَسَنًا لِلْمُسْتَقْبَلِ (لمصيرهم الأبدي)، لِكَيْ يُمْسِكُوا بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ (منذ الآن)» (1تي 6: 17 - 19)؛

* «لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ، كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ» (عب 13: 5)؛

* «وَأَمَّا أَنْتَ يَا إِنْسَانَ اللهِ فَاهْرُبْ مِنْ هذَا (محبة المال) وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالصَّبْرَ وَالْوَدَاعَةَ» (1تي 6: 11).

وفي مجال الخدمة حذَّر القديس بولس من الانزلاق إلى الاتجار بالدين، أي عندما تتحوَّل الخدمة إلى مصدر للتربُّح وجمع المال. وطلب من تلميذه الأسقف تيموثاوس «تَجَنَّبْ مِثْلَ هؤُلاَءِ» (1تي 6: 5). وجعل من شروط الأسقف وحتى الشماس ألَّا يكون طامعًا بالربح القبيح (1تي 3: 3، 8)(2) . فالخادم المنتصر على محبة المال والترف لن يتعالى على مخدوميه من الفقراء بل يرى نفسه واحدًا منهم كسيده، أمَّا مَنْ يغريه المال فسوف ينجذب إلى صحبة الأغنياء ومحاباتهم وقبول ولائمهم وهداياهم دون أن يسعى إلى خلاصهم، فيفقد النور ومساندة الروح وتفتر خدمته ويلاحقها الفشل، كما تفقد كنيسته سماتها كجسد المسيح الواحد وتنقسم طبقيًّا إلى أغنياء وفقراء، فيصير عثرة للكنيسة، ولن ينجو من الهلاك إن لم يقع تحت وطأة التأديب الإلهي وانصاع لها دون أن يتهرَّب منها.

* عن خدمة وتعليم الاثني عشر:

يورد لنا سفر الأعمال كيف تعامل آباؤنا الرسل في الكنيسة الأولى مع قضية الفقر والغِنَى، فرأينا كيف وحَّد الإيمان المشترك الكل معًا في المسيح «وَكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مُشْتَرَكًا ... وكان أصحاب الحقول والبيوت يَبِيعُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ، فَكَانَ يُوزَّعُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَكُونُ لَهُ احْتِيَاجٌ» (أع 4: 32-35).

أ. عن خدمة وتعليم القديس يعقوب(3) :

في رسالته شدَّد القديس يعقوب على الإيمان العملي وشجب إيمان الكلام الشكلي: «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ» (يع 2: 26) وأوضح أن «الدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ» (يع 1: 27). وبيَّن أن الغِنَى الحقيقي هو الحياة بالإيمان التي نصيبها الملكوت «اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ: أَمَا اخْتَارَ اللهُ فُقَرَاءَ هذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟» (يع 2: 5)، وأن أفضل ما يكون عليه الغَنيُّ هو اتضاعه وخضوعه لله «وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ، (كابن لله له كرامته)، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ. لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ (المتكل على ماله) أَيْضًا فِي طُرُقِهِ» (يع 1: 9-11).

وعلى مثال ما ذكره الرب عن الغنيِّ الغبي (لو 12: 16-20) مشيرًا إلى انشغال الأغنياء بجمع المال دون أن يفطنوا أن أمور الغد ليست في أيديهم، كتب القديس يعقوب: «هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا إِلَى هذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ. أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ يَظْهَرُ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْمَحِلُّ عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هذَا أَوْ ذَاكَ. وَأَمَّا الآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ افْتِخَارٍ مِثْلُ هذَا رَدِيءٌ» (يع 4: 13 - 16).

وهو كال الويلات كثيرًا لأمثال هؤلاء الأغنياء الجشعين الملتصقين بالعالم «هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، ابْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوَتِكُمُ الْقَادِمَةِ. غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ، وَثِيَابُكُمْ قَدِ أَكَلَهَا الْعُثُّ. ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ! قَدْ كَنَزْتُمْ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ. هُوَذَا أُجْرَةُ الْفَعَلَةِ الَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ الْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ تَصْرُخُ، وَصِيَاحُ الْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذْنَيْ رَبِّ الْجُنُودِ. قَدْ تَرَفَّهْتُمْ عَلَى الأَرْضِ، وَتَنَعَّمْتُمْ وَرَبَّيْتُمْ قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي يَوْمِ الذَّبْحِ » (يع 5: 1-5).

كما دان خدام الكنيسة الذين يُميِّزون في معاملة المخدومين ويجاملون الأغنياء ويحتقرون الفقراء وأنهم بهذا ينكرون الإيمان، فكتب يقول لهم: «يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، رَبِّ الْمَجْدِ، فِي الْمُحَابَاة ... فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ. وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ، تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً، مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ » (يع 2: 1، 8، 9)

ب. عن خدمة وتعليم الرسول يوحنا:

ربط القديس يوحنا خدمة الفقراء بمحبة الإخوة، فكتب في رسالته الأولى: «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ، لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ. مَنْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ فِي الْمَوْتِ. كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ قَاتِلِ نَفْسٍ لَيْسَ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ. بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ (المسيح) وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجًا، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فِيهِ؟ يَا أَوْلاَدِي، لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ!» (1يو 3: 14-18).

(يتبع)

دكتور جميل نجيب سليمان

__________________________________________________________

(1) يشير الرسول بولس كيف أن فقراء كنائس مكدونية أعطوا بسخاء من أجل فقراء أورشليم وأنهم «فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، (أي دون ضغط أو حرج بل على العكس) مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَن نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ» (2كو 8: 2-4)
(2) كما أشار أيضًا معلِّمنا القديس بطرس في خطابه إلى شيوخ الكنيسة: «ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّارًا، لاَ عَنْ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاخْتِيارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ» (1بط 5: 2).
(3) هو يعقوب بن حلفى الذي دُعي أخا الرب (غل 1: 19) وأخو القديس يهوذا. وكان أول أسقف لأورشليم ورأس المجمع الرسولي الأول الذي انعقد في أورشليم لتدبير خدمة الأمم (أع 15). أما القديس يعقوب بن زبدي فقد استشهد مبكرًا بالسيف على يد هيرودس (أع 12: 2) تاليًا للقديس استفانوس شهيد الكنيسة الأول (أع 7: 59، 60).

This site is issued by the Monastery of St Macarius the Great at Scetis