دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

 

الصفحة التالية العودة إلى الفهرس الصفحة السابقة

لمحة تاريخية

التطوُُّرات المبكِّرة في اللاهوت القبطي

 

إن مصر كانت من خلال مدينة الإسكندرية، هي المركز الرئيسي للحياة الفكرية في الشرق الأوسط في العالم القديم، حيث كانت على اتصال بالتطوُّر الذي حدَّد ملامح اللاهوت المسيحي في الخمسة القرون الأولى بعد الميلاد. ففي الإسكندرية حدث تطعيم الإنجيل في الفلسفة اليونانية القديمة على نطاق واسع. ولكن خرج أيضاً من الإسكندرية بعض أعظم المدافعين عن الإيمان المسيحي(2).

التطور الخطير بعد انقسام الكنيسة في مجمع خلقيدونية:

لقد كتب آباء كنيسة الإسكندرية العظام باللغة اليونانية، ولكن مع انقسام الكنيسة بعد مجمع خلقيدونية عام 451م، فَقَدَ اللاهوت الإسكندري شموخه وشهرته. وانتقلت مدرسة الموعوظين المشهورة من الإسكندرية إلى آسيا الصغرى. ومع اضطهاد الأقباط على يد الأباطرة البيزنطيين الموالين لمجمع خلقيدونية، صارت الأديرة، وعلى الأخص دير القديس أنبا مقار، مراكز للاَّهوت القبطي، أدَّى إلى انتقال تدريجي من اللغة اليونانية إلى القبطية. وأكثر من هذا، فبسبب الانقسام الدائم انفصلت مصر عن كثير من التطوُّرات اللاهوتية اللاحقة التي حدثت في الكنيسة البيزنطية، وعلى الأخص بعد الغزو العربي عام 642م(3).

وفي مصر، وخارج الإسكندرية، كان قد وُلِدَ في القرن الرابع أدب قبطي على يدي القديسين أنطونيوس وباخوميوس وأعظم الكُتَّاب باللغة القبطية شنودة الأتريبي. وقد تميَّزت كتابات هؤلاء، بالإضافة إلى ما تمت ترجمته للقبطية من الكتابات اليونانية بعد مجمع خلقيدونية، بأنها كانت أقل اهتماماً باللاهوت العقيدي، وأكثر وفرة بالاختبارات والمشورات الروحية. ولم يُترجم إلى القبطية إلاَّ القليل من الكتابات الهامة لآباء الكنيسة في القرن الرابع. وحتى لآباء الكنيسة القبطية: القديس أثناسيوس، والبابا ثاوفيلس، والقديس كيرلس، الذين هم استثناءات قليلة من هذا، حيث احتُفِظَت كتابات لهؤلاء الآباء بالقبطية، عبارة عن عظات واقتباسات من مقالات جدلية وعقيدية، نُقِلَت كبراهين للاَّهوت القبطي في شكل مقتطفات(4).

وكانت النتيجة أن الكتابات اللاهوتية القبطية في أوائل القرون الوسطى كانت تميل إلى روح محافظة جداً لا تُعطي صورة لتصريحات دفاعية كاملة لاهوتية لهؤلاء الآباء، بل مجرد نقل قصص مُشوِّقة، وعظات، وألحان، وكتابات تختص بالرعاية.

التطوُّرات في القرون الوسطى التي أثَّرت على الكتابة اللاهوتية القبطية باللغة العربية:

وبعد الغزو العربي، ثم القبول التدريجي للُّغة العربية كلغة للأقباط، بدأت مرحلة جديدة من علوم اللاهوت القبطية. ففي أواخر القرن العاشر، ظهر الاحتياج للتعليم المسيحي بالعربية، نتيجة الانحسار السريع للُّغة القبطية في مصر، وهكذا بدأ عصر ذهبي للكتابة القبطية باللغة العربية(5). وكان من بين هذه الكتابات، إنشاء ترجمات إلى العربية لنصوص آبائية، ولكن أيضاً كانت هذه الترجمات لمقاطع من النصوص الآبائية غير ذات أهمية لاهوتية، وكانت أساساً ذات طابع أخلاقي أو نسكي أو قانوني(6).

وبدخول اللغة العربية كلغة مختلطة (أي لغة تفاهم بين شعوب مختلفي اللغات)، دخل الأقباط في مرحلة من التبادُل الفكري الحيوي مع مسيحيين آخرين في بلاد الشرق الأوسط. وهكذا، عثروا على بعض مقاطع من تقاليدهم الروحية لم تكن قد تُرجمت من قبل إلى القبطية(7)، ولكنها وُجدت عند مسيحيين من هذه البلاد الأخرى. وكانت ما تزال النـزاعات الخريستولوجية (المختصة بطبيعة المسيح) منذ مجمع خلقيدونية دائرة، لذلك كانت الترجمات العربية لمقتطفات من النصوص القديمة ذات النفع لهذا الغرض. كذلك كان الدفاع عن المسيحية في وجه المجادلين المسلمين أمراً ضرورياً لانتشار عملية ترجمات عربية للنصوص الآبائية. وهذا التطوُّر نشأ مع الروم الملكيين في فلسطين.

وهكذا ساهم هذان العاملان: (أي العثور على تقاليد قبطية روحية باللغة العربية عند مسيحيين من بلاد أخرى، ونصوص آبائية مُترجمة للعربية لمواجهة المجادلين المسلمين)، ساهم في تركيز الترجمة على مقتطفات من النصوص الآبائية التي يمكن أن تُستخدم في المصطلحات المتنازَع عليها عن الثالوث وطبيعة المسيح(8).

وبالرغم من أن الكتابات القبطية باللغة العربية بدأت متأخرة عن مثيلتها لدى السريان، إلاَّ أنها اعتُبـِرَت أنها ذات أصل تاريخي وأكثر شمولاً. ويُلاحَظ أن بعض أعظم المؤلِّفين المسيحيين باللغة العربية في ذلك العصر كانوا أقباطاً(9).

أما نتاج هذه الأجيال الذهبية في العصور الوسطى، فهو الذي صاغ التفكير المسيحي العربي، وقد حدَّد إلى درجة كبيرة شكل ومضمون اللاهوت المتوارث للكنيسة القبطية منذ ذلك الوقت. ومع التجديد اللاهوتي الذي أتى مع استخدام اللغة العربية، ظهر الاحتياج إلى الدفاع عن المسيحية في مواجهة الإسلام. وقد كشف أسلوب ومضمون الكثير من هذه الكتابات الدفاعية الأصلية، الخلفية التي يقوم عليها هذا الحوار الدفاعي، حيث وُضِعَت في هذه الكتابات أسئلة للمسيحيين الذين كان عليهم أن يُقدِّموا عنها إجابات منطقية مقبولة من المسلمين الذين يسألونهم. ولهذا كانت معظم الموضوعات المميَّزة هي عن الثالوث والتجسُّد. أما الأرضية المشتركة لهذا الحوار فكانت هي اللغة العربية المتأثِّرة بالفلسفة الإسلامية وتراث الفلسفة الأريسطوطالية(*) التي تُرجمت إلى العربية بيد المسيحيين السريان. والكثير من الكتابات اللاهوتية المسيحية باللغة العربية في القرون الوسطى يمكن أن يُطلق عليها تعبير مُستعار من الغرب: ”سكولاستيكي - مدرسي(#)(10).

 

(*) الأريسطوطالية: منهج فلسفي ابتدعه الفيلسوف اليوناني أرسطو (384-322 ق.م). وهو يقوم على المنطق الشكلي الذي يلعب بالألفاظ والمفاهيم، بحسابات منطقية تجعله في النهاية، في ظاهره، مقبولاً عقلياً ولكنه لا يتطابق مع الواقع، بل مع استحسان العقل فقط. وهذا المنهج يقوم على التلقين والتحفيظ. وهو غير مقبول عند آباء الكنيسة الذين ”تكلَّموا باللاهوت على نمط الرسل، وليس على نمط أرسطو“ (المترجم).

(#) ”سكولاستيكي“، أي ”مدرسي“: وهو منهج فلسفي لاهوتي قائم على الأريسطوطالية التي تقوم على استخدام الحسابات المنطقية لإثبات أي قضايا نظرية، في تجاهل طبعاً للاستعلان والإلهام اللذين يمنحهما الروح القدس (ارجع إلى الأصحاحين الأول والثاني من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس). ويرتبط اسم توما الأكويني (1225-1274م) بمنهج "المدرسية" لأنه أول مَن استخدمه لتحفيظ تلاميذ المدارس الكاثوليكية في أوروبا في القرون الوسطى بنود الإيمان على طريقة أرسطو. وقد اقتبسها الأكويني من ”ابن رُشد“ الفيلسوف العربي الذي ترجم كتابات أرسطو إلى العربية واستخدمها لهدم العقائد المسيحية، فأخذها توما الأكويني من بعده ليشرح بها ويبرهن على صحة العقيدة المسيحية (المترجم).

(2) أكثر اللاهوتيين الإسكندريين شهرة، هما العلاَّمة كليمندس الإسكندري والعلاَّمة أوريجانس، هذا من جهة؛ ومن الجهة الأخرى، القديس أثناسيوس الرسولي والقديس كيرلس الإسكندري.

(3) ظلت العلاقات مع سوريا وفلسطين قوية، ليس فقط مع الكنيسة السريانية اللاخلقيدونية، بل وأيضاً مع الروم الملكيين (يتبعون كنيسة روما الكاثوليكية)؛ وكذلك النساطرة، الذين كانوا شركاء مع الأقباط في الخضوع للحكم الإسلامي العربي. وقد كان التبادل اللاهوتي أساساً في مجال اللاهوت النسكي والميستيكي الصادرَين من أديرة سيناء وفلسطين وسوريا.

(4) عن الترجمات القبطية للنصوص الآبائية، انظر المراجع لأبحاث Leipoldt، O'Leary، Krause في كتاب:

Tito Orlandi, "Coptic Literature", The Roots of Egyptian Christianity, (ed. by Birger A Pearson and James E. Goehring), Philadelphia; Fortress Press, 1986, 51-81.

(5) عن الكتابات القبطية بالعربية لهذه الفترة انظر:

Georg Graf., Geschichte der christlichen arabischen Literatur II, (Studi et Testi 133), Citt? del Vaticano, 1947, 44-475.

(6) عن الكتابات القبطية المبكِّرة، انظر: خليل، سمير:

"Arabic Sources for Early Egyptian Christianity", The Roots, 82-97

وعن الكتابات الرهبانية، انظر:

Samuel Rubenson, "Arabic Sources for the Theology of the Early Monastic Movement in Egypt", Parole de l'Orient, XVI (1990 a 1991), 33-47.

(7) هذه المقاطع كانت أساساً لمؤلفين يونانيين وسريان تُرجمت إلى العربية بمعرفة الروم الملكيين والسريان. وبعض هذه الكتابات، مثل: العظات المنسوبة للقديس مقاريوس الكبير، وميامر مار إسحق أسقف نينوى؛ كانت أساسية لحركة الإحياء الرهباني الحديثة في مصر. وهناك أمثلة أخرى هي: كتابات القديس غريغوريوس النزينزي، وديونيسيوس الأريوباغي، ومكسيموس المعترف، والقديس يوحنا الدرجي.

(8) أشهر المقتطفات الآبائية باللغة العربية نجدها في مخطوطة: ”اعتراف الآباء“، ”الدر الثمين في إيضاح الدين“، وهما قائمان على التقاليد القبطية في المجادلات المضادة لمجمع خلقيدونية. وعن ملاحظات على ترجمة الكتابات الآبائية إلى العربية في مصر انظر:

Samuel Rubenson, "Translating the Tradition. Some Aspects of the Arabization of the Patristic Heritage in Medieval Egypt", to be published in Medieval Encounters. Jewish Christian and Muslim Culture in Confluence and Dialogue 1 (1955).

(9) أشهر هذه الكتابات هي من تأليف ”ساويرس بن المقفَّع“ (حوالي القرن العاشر)، وسمعان بن كليل بن مقاره (حوالي 1150-1210)، الراهب بن أبو الخير بن الطيب (حوالي 1160-1245)، الصفي ابن العسال (حوالي 1190-1255)، المؤتمن أبو إسحق إبراهيم بن العسال (حوالي 1200-1260)، شمس الرئاسة أبو البركات ابن كَبَر (حوالي 1270-1324).

(10) هناك مناقشات علمية متنامية عن فلسفة ولاهوت الكتابات اللاهوتية المسيحية باللغة العربية في القرون الوسطى. انظر مثلاً مجموعات: Patrimoine d'arabe chrétien. وكذلك المجلَّدات الصادرة عن:

International Conferences of Christian Arabic Studies published in Orientalia Christiana Analecta 218 (Rome 1982), 226 (Rome 1986), in Parole de l'Orient XVI.

(الكسليك، لبنان 1990-1991).