دير القديس العظيم أنبا مقار
الصفحة الرئيسية  مجلة مرقس الشهرية - محتويات العدد

 

الصفحة التالية العودة إلى الفهرس الصفحة السابقة

خلفية الإحياء الحديث

في القرنين التاسع عشر والعشرين

 

بعد نهاية العصر الذهبي في القرن الرابع عشر، توقفت كتابات اللاهوت القبطي، إلى أن أتى القرن التاسع عشر(11). فمع مجيء محمد علي إلى مصر، انفتحت مصر فجأة على الغرب. فبالإضافة إلى مجيء المكتشفين والتجار والخبراء الفنيين والمعلِّمين العلمانيين، توطَّن في البلاد كثير من المبشِّرين من كافة الطوائف البروتستانتية والكاثوليكية بأعداد متزايدة. وفي الحال انخرط في أنشطة التعليم كثيرون من المبشرين، موجِّهين أهدافهم تجاه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكان هؤلاء المبشِّرون البريطانيون من إرسالية CMS، قاصدين التأثير في الكنيسة القبطية باتجاه إحداث حركة للإصلاح Reformation بلاهوتهم الغربي. وبدلاً من أن يؤسِّسوا كنيسة أنجليكانية Anglican في مصر، حاولوا أن يعملوا وسط الأرثوذكس. وكثيرون من الأقباط الذين صاروا فيما بعد من وجهاء الأقباط في الكنيسة كانوا قد تعلَّموا في مدارسهم(12). ومع اعتلاء البابا كيرلس الرابع (أبي الإصلاح) الكرسي المرقسي، كان تأثيرهم قد بلغ إلى الذروة. وفي وقتٍ قصير، استطاعوا حتى أن يديروا أول مدرسة لاهوتية قبطية أرثوذكسية(13).

وفي النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ظهر ردُّ فعل قبطي أرثوذكسي ضد هذا التأثير المسيحي الغربي. فقد كان ردُّ الفعل هذا موجَّهاً جزئياً ضد الإصلاحات الجذرية للبابا كيرلس الرابع، لكنه كان أساساً جزءاً من نمو الضمير الوطني المصري، الذي تقوَّى بسبب الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م. وكانت الكنيسة منذ ذلك الوقت قد قَبـِلَت الكثير من أساليب المبشِّرين في مجالات مثل التعليم وتوزيع المطبوعات. ولكن هذه الأساليب وُجِّهَت أساساً ضد المبشِّرين بواسطة الأقباط الذين تعلَّموا في تلك المدارس الحديثة.

وهكذا ظهر للوجود في أواخر القرن التاسع عشر تجديد في الكتابات اللاهوتية القبطية، ولكن في شكل جدلي. ولكن الذي حدَّد الموضوعات الجدلية كانوا الكاثوليك والبروتستانت، وليس المسلمون (كما كان في أوائل العصر الذهبي للكتابات اللاهوتية القبطية في العصور الوسطى)، أما دور اللاهوتيين الأقباط فكان بدرجة كبيرة دفاعياً. وقد أدَّى هذا التعرُّض للنشاط التبشيري الغربي إلى تأثير عميق. وفي إطار العمل اللاهوتي الغربي، وعلى الأخص الكاثوليكي منه، كان الأقباط يُدافعون عن القضايا ذات الخلاف العقائدي(14).

لكن - لسوء الحظ - فإن الخلافات الكنسية الداخلية بين المصلحين من المجلس الملي وبين الرئاسة الكنسية في ذلك الوقت منعت لوقت طويل أية إصلاحات فعَّالة للتعليم اللاهوتي.

ظهور حركة مدارس الأحد:

وقد نجم عن هذا الدفاع عن التقليد القبطي الأرثوذكسي ضد عمليات الاستمالة للمذهب البروتستانتي على يد المبشِّرين، وهو ما كان من أهم العوامل وراء النهضة التي بدأت في الأربعينيات من القرن العشرين؛ ظهور حركة مدارس الأحد. وقد استُعير اسم مدارس الأحد من مثيلها لدى البروتستانت، ولكن هذه الحركة تطوَّرت بفضل كبار الأقباط في مبتدأ القرن العشرين، وأهم هؤلاء حبيب جرجس، وصارت هي النمط السائد للتعليم الديني القبطي في المدن الكبرى وعلى الأخص القاهرة. وفي هذه المدارس كان شباب الأقباط يتلقَّوْن تعليماً دينياً عميقاً تحت يد مدرسين شباب غيورين. ومن هؤلاء الشباب تكرَّس للكنيسة جيل جديد من الروَّاد العلمانيين الذين تلقَّوْا تعليماً علمياً حديثاً. وقد دخل عدد كبير من هؤلاء إلى الأديرة الكائنة بالصحاري، وشاركوا في هذه النهضة(15).

ولكن هذه المدارس كانت ما تزال تعتمد على التقليد ”المدرسي scholastic“ القديم، والذي أُضيفت عليه أساليب غربية في التعليم الديني، وعلى الأخص في قراءة الكتاب المقدس والشرح المنهجي للِّيتورجية والأسرار(16).

قوة دافعة للإصلاح مختلفة دخلت الكنيسة:

غير أن قوة دافعة مختلفة أتت من داخل تقليد الصحراء نفسه، حيث بدأ عدد من النسَّاك المُنادين بالتغيير الجذري في جذب تلاميذ لهم. ومن بين هؤلاء راهب إثيوبي غير متعلِّم هو ” أبونا عبد المسيح الحبشي(17). وكان العديد من الشباب المصريين في بداية القرن العشرين ممتعضين من اعتماد المملكة المصرية على البريطانيين. وكما تجمَّع مسلمون في حركات إسلامية تُنادي بالنهضة، ومتحمِّسون ذوي نزعات مدنية في جماعات سرِّية للإشتراكيين؛ كذلك تجمَّع أقباط في منظمات قبطية(18). وهكذا غادر البعض المدينة تاركين هذا المجتمع وراء ظهورهم، وتوجَّهوا إلى الصحراء. وفي الأديرة وجدوا، ليس فقط قادة روحيين، بل وأيضاً مكتبات بها مخطوطات تحوي تراثهم الروحي، وكتابات روَّاد الرهبنة الأوائل من القرون الأولى، مثل: القديس أنطونيوس، والقديس مقاريوس، والقديس مار إسحق أسقف نينوى(19). ولكن البعض لم يجد الحياة في الأديرة آبائية بالقدر الكافي، فاعتزلوا أكثر في الصحراء ليستطيعوا أن يَحيَوْا حياة آباء البرية الأوائل في القرن الرابع.

وفي عام 1959م، نالت حركة الإحياء الرهباني أكبر مؤيِّد لها باختيار البابا كيرلس السادس بطريركاً للإسكندرية. وقد كان ناسكاً درس الآباء الروحانيين الأوائل، وكان لمدةٍ ما تلميذاً لـ ”أبونا عبد المسيح الحبشي“. ولأنه كان قائداً روحياً قوياً بدون أن يكون مرتبطاً بأية ارتباطات مع النخبة القبطية السابقة على الثورة، استطاع البابا كيرلس أن يتعاون جيداً مع الرئيس عبد الناصر ويُقوِّي موقف الكنيسة عموماً والرهبنة القبطية بوجهٍ خاص. وبمساندته، تكفَّل النسَّاك والرهبان الغيورون من الشباب بإعادة تعمير وإحياء الأديرة القديمة التي جذبت في ذلك الوقت الشباب من القاهرة وأماكن أخرى. ومن بين هؤلاء نجد أشهر الروَّاد في الكنيسة القبطية اليوم، مثل: البابا شنودة الثالث، والأسقف أثناسيوس (المتنيح) - بني سويف، والأسقف موسى - أسقفية الشباب. وكثيرون من هؤلاء الرهبان الشباب اختيروا ليكونوا أساقفة، الأمر الذي جعلهم محدودي الإمكانيات للانخراط في الأبحاث والدراسات اللاهوتية. وقد توجَّه إنتاجهم اللاهوتي في الأساس نحو التعليم الأَوَّلي للأقباط عموماً، حيث كان يعتمد على شروحات من الإنجيل. أما في الأديرة فقد أُضيف على ما تعلَّموه في مدارس الأحد بقراءات من آباء الكنيسة، وعلى الأخص الآباء النسَّاك. وهكذا نشأ الاحتياج لترجمات عربية حديثة لآباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية، ولتعليم لاهوتي بأسلوب أكثر آبائية وأقل مدرسية (سكولاستيكية).

أثر الأب متى المسكين في ظهور حركة ترجمة كتابات الآباء:

وهكذا أرست حركة الإحياء الرهباني أساساً لحركة الإحياء الآبائي، ولكتابات لاهوتية قبطية أرثوذكسية قائمة على اللاهوت الرهباني الأول. ويُمثِّل هذه الحركة الأب الأكثر شهرة الغزير في الكتابات، أب دير القديس مقاريوس الكبير، الأب متى المسكين. ولهذا السبب، فسوف آخذ كتاباته نموذجاً لِمَا تعنيه حركة إعادة الإحياء هذه.

وهكذا أيضاً بدأ مركز دراسات الآباء في بيت التكريس لخدمة الكرازة في القاهرة عام 1982، بالعرض الضمني لترجمة نصوص آبائية إلى العربية والتكفُّل بالدراسات اللاهوتية العُليا، وعلى الأخص في الآبائيات، وذلك بإرسال شباب لاهوتيين إلى الخارج. وقد تُرجمت كتابات عديدة للقديس أثناسيوس والقديس كيرلس، وعظات القديس مقاريوس، بتعضيد هذا المركز. وقد انتشر نموذج بيت التكريس لخدمة الكرازة على نطاق واسع، فهناك سلاسل من المطبوعات منشورة باللغة العربية وتفاسير لآباء الكنيسة(20). وبالرغم من أن معظم هذه الكتابات لم تكن ذات هدف علمي، بل كانت تخاطب جمهور الشعب بوجهٍ عام، إلاَّ أن هناك استثناءات ملحوظة، وأهمها الطبعة العلمية للدسقولية العربية بمقدمة مُركَّزة كتبها دكتور وليم سليمان قلادة(21).

 

(11) انظر: Graf, Geschichte der Christlischen arabischen Literatur IV, 114a 142.

(12) وأهم مَثَل لهؤلاء الراهب أندراوس الذي صار فيما بعد مطراناً لإثيوبيا باسم أبونا سلامة.

(13) انظر:

B. Evetts, "Un prélat réformateur. Le patriarche copte Cyrille IV (1854 à 1861)", Revue de l'Orient Chrétien 17 (1912) 3-15, J. Heyworth-Dunne, "Education in Egypt and the Copts", Bulletin de la Société d'Archéologie Copte VI (1940) 91-108 and R. Strothmann, Die koptische Kirche in der Neuzeit. Reprint. Nendeln, Liechtenstein: Kraus Reprint LTD.

وللأسف، فإن السيرة الذاتية الوحيدة للبابا كيرلس الرابع هي بالعربية: جرجس فيلوثاوس عوض، الأنبا كيرلس الرابع، أبو الإصلاح القبطي، القاهرة، 1911.

(14) انظر: Graf, Geschichte, 145-159. وأشهر ممثِّلي حركة الإصلاح اللاهوتي هذه كانوا هم أفرآم عاداد؛ وفيلوثاوس إبراهيم، الإيغومانس.

(15) وواحد من هؤلاء الروَّاد كان مدرِّساً شاباً متخرجاً في جامعة القاهرة، الذي صار فيما بعد راهباً، ثم أسقفاً، ثم اُختير بطريركاً باسم البابا شنوده الثالث.

(16) الكتابات عن هذه الحركة ما زالت محدودة جداً، ولكن انظر:

Wolfram Reiss, "Geschichte und Entwicklung der Sonntagsschulen in der Koptisch-Orthodoxen Kirche", Der Christlichen Osten 47 (1992).

(17) عن هذا الراهب المتوحِّد انظر:

Otto Meinardus, "Zeitgen?ssische Gottesanrren in den Wüsten ?gyptens, "Ostkirchliche Studien 36 (1987) 302-306.

وهناك أب آخر ذو أهمية في حركة إعادة الإحياء الرهباني هو القس داود المقاري.

+ (والراهب داود المقاري (1894-1954)، حاصلٌ على دكتوراه في القانون عام 1922، وترهَّب عام 1943 في دير القديس أنبا مقار. وقد طُرِد - تعسُّفياً - من الدير حوالي عام 1946 لمنعه من الترشيح للكرسي البطريركي. وأتقن اللغة القبطية، ونشط في نشر المطبوعات الكنسية. كما صمَّم أول آلة كاتبة باللغة القبطية أُنتجت في ألمانيا. وأصدر مجلة بالإنجليزية اسمها "The Lights" (وهي ترجمة اسم المجلة التي كان يُصدرها باللغة العربية: ”الأنوار“)، كان يشرح فيها عقائد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالإنجليزية لمنفعة المنضمين للكنيسة القبطية خارج مصر.

وبعد طرده من الدير، أسَّس كنيسة باسم ”السيدة العذراء“ بروض الفرج، وألحق بها ملجأ ومدرسة ابتدائية للتلاميذ الفقراء. وقد نشر أسفار العهد الجديد وسفرين من العهد القديم: ”التكوين“ و”الخروج“ باللغة القبطية. وكان يتميَّز بأخلاق الرجولة، وعلم العلماء، ونُسك الرهبان. وكان عف اللسان، ومتسامحاً مع الذين آذوه، ذا مبادئ ومنهج شامل لإصلاح الكنيسة. وظل عاملاً إيجابياً في حقل الكنيسة حتى وفاته يوم تذكار نياحة البابا كيرلس الرابع أبي الإصلاح الذي كان يُسمَّى قبل رسامته بطريركاً باسم ”الراهب داود“ أيضاً) - المترجم.

Oxf. Dict. of the Christ. Church, pp. 58,59.

(18) عن هذه المرحلة وردود فعل الشباب المصريين ضد المملكة الوطنية، انظر:

B.L. Carter, The Copts in Egyptian Politics, London: Croom Helm, 1986.

وكذلك السيرة الذاتية لأنور السادات.

(19) عن حركة الإحياء هذه، انظر أيضاً:

Otto Meinardus, "Zur monastischen Erneuerung in der koptischen Kirche", Oriens Christianus 61 (1977) 59-70 and Gottfried Gla?ner, "Erneuerung im Zeichen der M?nche", Erbe und Auftrag 66 (1990) 29-43.

(20) وأهمها الـ 32 مجلَّداً ، والتي تحوي ترجمات في سلسلة ”نصوص الآباء“، و4 مجلَّدات عن دراسات في مجلة ”دراسات آبائية“، نشرها مركز الآباء؛ وأكثر من 20 مجلَّداً في سلسلة ”آباء الكنيسة“، نُشرت تحت رعاية أسقف بني سويف.

(21) ”تعاليم الرسل - الدسقولية“، مراجعة الدكتور وليم سليمان قلادة، القاهرة، نشر دار الثقافة، 1989 (الطبعة الثانية).