الخلفية المعاصرة لكتابات الأب متى المسكين
ولكن خلف حركة إعادة الإحياء اللاهوتي المتمثِّلة هنا في كتابات الأب متى المسكين، يستطيع المرء أن يلحظ ثلاثة عوامل كبرى ظاهرة للعيان في الجدل اللاهوتي الدائر اليوم في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والذي أظهر بعضاً من الفروق المتنامية بين تقاليد موروثة (من القرون الوسطى) وبين حركة الإحياء.
أما العامل الأول فهو: مسألة استخدام وتفسير الكتاب المقدس. فمع مجيء المبشِّرين (الأجانب)، وعلى الأخص البروتستانت، انتشرت نسخ الكتاب المقدس وصارت تُقرأ بدرجة لم تكن معروفة من قبل. ومفهوم سلطان الكتاب المقدس عند البروتستانت، صار بمثابة أداة في يدهم إذ اقتبسوا آيات منه لينتقدوا ممارسات الكنيسة الأرثوذكسية.
+ وصار السؤال داخل الكنيسة القبطية:
*
هل يُرَدُّ على هؤلاء بموقف دفاعي تُستخدم فيه آيات الكتاب المقدس بنفس الطريقة للدفاع عن التقليد؛
*
أو يُرَدُّ بمدخل للكتاب المقدس مختلف تماماً، وهو إعادة إحياء التقليد التفسيري لآباء كنيسة الإسكندرية القدامى (كليمندس، أوريجانس، ديديموس، البابا أثناسيوس الرسولي، البابا كيرلس الكبير، وغيرهم)؟ وهذا ما فعله الأب متى المسكين ما سنُفصِّله فيما بعد.
وأما العامل الثاني فهو: الاقتباس من كتابات آباء القرون الأولى الروحيين، الذين لم يكن من السهل أن تتوافق دائماً تعاليمهم مع تعاليم الكنيسة الرسمية المعاصرة.
أما العامل الثالث فهو: الوضع المسكوني اليوم. فمن خلال كتابات الأب متى المسكين، فقد تلقَّى الإحياء اللاهوتي الآبائي سنداً قوياً من كتابات العلماء اللاهوتيين الأرثوذكس المعاصرين في أوروبا والولايات المتحدة، مثل: فلاديمير لوسكي، وجان مايندورف، وجان زيزيولاس(30)؛ الذين كان علمهم اللاهوتي المؤسَّس على آباء الكنيسة، وعلى الأخص في مجال علم الكنسيات Ecclesiology، يُظهِر نقداً (بدون قصد طبعاً) لبعض الممارسات في بعض التقاليد الدينية القبطية (المتوارثة من القرون الوسطى) والسائدة الآن.
*
وهنا نُفصِّل بإسهاب هذه العوامل الثلاثة التي تقف كخلفية لكتابات الأب المسكين:
أولاً: استخدام آيات الكتاب المقدس
يُلاحَظ في التعليم اللاهوتي اليوم أنه يستخدم بكثرة آيات الكتاب المقدس كمرجع للتعليم، وهذا غير شائع في علم اللاهوت الغربي المعاصر. ففي كتابات الأب متى المسكين وفي كل صفحة منه هناك آيات مُقتبسة من الكتاب المقدس. وهذا الأسلوب هو من إفراز التقليد الرهباني في ممارسة القراءة والتأمُّل المتواترين في الكتاب المقدس، وهذا شائع أيضاً في حركة الإحياء الرهباني. ويُبدي الأب متى المسكين اهتماماً خاصاً بالعهد القديم، الأمر الذي هو غريب أيضاً عن معظم المسيحيين الأوروبيين المعاصرين. ومن أكثر أسفار العهد القديم أهمية في التقليد الرهباني هو سفر المزامير الذي يحفظه الرهبان عن ظهر قلب، وكذلك نبوَّات أنبياء العهد القديم التي تُقتَبَس كثيراً، سواء في الليتورجية أو في الكتاب المقدس. والوحدة بين العهدين القديم والجديد أساسية في دراسة الكتاب المقدس، وكذلك تفسير العهد القديم المؤيِّد للتعليم عن اتحاد الطبيعتين في المسيح، وعن الكنيسة.
اتجاه قوي نحو التفسيرالحرفي للكتاب المقدس في الدفاع:
وترجع الفروق بين حركة الإحياء الرهباني وبين التقاليد السائدة إلى اختلاف نوع التأثـُّر بحركة النقد الكتابي الغربي. فبسبب التأثير الذي أحدثه المفهوم الإسلامي للقرآن على أن كلام الله مُنـزَلٌ حرفياً، وكذلك بتأكيد البروتستانت على المعنى الحرفي البسيط لآيات الإنجيل؛ فقد حدث اتجاه قوي في التعليم الشعبي اللاهوتي القبطي اليوم نحو التفسير الحرفي للكتاب المقدس. فهناك الكثير من الكتابات الدفاعية الموجَّهة أساساً ضد المذاهب البروتستانتية (وعلى الأخص ضد ”الإخوة البلاميث“)، والتي تستخدم البراهين من الكتاب المقدس لتأييد العقائد الأرثوذكسية، مما يؤكِّد هذا الاتجاه (أي التفسير الحرفي للكتاب المقدس).
ولكن الأب متى المسكين يستخدم أسلوباً آخر : التقليد الآبائي:
- ففي كتاباته التفسيرية الهامة يتخذ اتجاهاً آخر. وذلك بالاعتماد على التقليد الآبائي، وعلى الأخص التفسير الرمزي والمبادئ التفسيرية لمدرسة الإسكندرية القديمة، والتي فيها يُطبَّق الكتاب المقدس دائماً بالتأكيد على المعنى الباطني للآية. فالمهم هو الرسالة الروحية المعطاة للمسيحي العائش اليوم.
- فالكتاب المقدس يجب أن لا يُفحص بل يُختَبَر.
- ومعرفة الله التي هي القصد النهائي للكتاب المقدس، يجب أن نبدأها بالتواضع والنقاوة.
- والكتاب المقدس لا يمكن فهمه إلاَّ إذا كانت هناك شركة وطاعة لِمَا تستعلنه كلمة الله للإنسان تدريجياً.
*
والكتاب المقدس ليس موضوعاً لكي يُعطينا براهين على عقيدة أو شرحاً للإيمان (وإن كان يحوي هذا وذاك طبعاً)، ولكنه أولاً يُصدِّق ويختم على ما يختبره الإنسان في لقائه مع الله، وبهذا تكون قراءته مُعيناً له لتجديد حياته ولإرجاعه ثانية إلى خِلْقَته الأصلية(31).
لذلك، فالأب متى المسكين يبقى غير متأثِّر بمعطيات النقد الكتابي الغربي (بل يلجأ إلى طريقة مدرسة كنيسة الإسكندرية اللاهوتية في التفسير).
ثانياً: الاعتماد على كتابات آباء الكنيسة
هناك في حركة الإحياء اللاهوتي الرهباني اعتماد قوي على كتابات الآباء الروحيين الشرقيين من القرون الأولى. وأحد هؤلاء الآباء والأكثر شهرة بينهم هو مار إسحق السرياني أسقف نينوى، من القرن السابع، الذي أحدثت كتاباته تأثيراً عميقاً على الروحانية الأرثوذكسية. وبالرغم من كونه (بالميلاد) يُعتبر نسطورياً (بسبب انتمائه إلى كنيسة المشرق في العراق)، إلاَّ أن كتاباته تُرجمت إلى اليونانية ودخلت ضمن كتاب الفيلوكاليا اليونانية (التي تحوي كتابات لآباء البرية ابتداءً من القديس أنطونيوس). ومن المحتمل جداً أن يكون الأب متى المسكين قد تأثر بالبابا الراحل كيرلس السادس الذي درس مار إسحق السرياني بينما كان ما يزال متوحِّداً(32). فمن خلال كتابات مار إسحق وكذلك عظات القديس مقاريوس، يكون الأب متى المسكين مديناً بالفضل جداً للتقليد النسكي السرياني بتأكيده على ”القلب“ كمحور في الحياة الروحية.
على أنه يشيع في فكر الأب متى المسكين ما هو مشترك في التقليدين القبطي والسرياني من جهة التأكيد على أصل خِلْقة الإنسان على صورة الله ومثاله، وعلى النظرة التفاؤلية للقدرات الروحية للإنسان.
*
وهذه الكتابات لم تتأثـَّر بالجدل الدفاعي ضد المقاومين لعقيدة الكنيسة عن طبيعة المسيح (الخلقيدونيين والنسطوريين)، ولم تتأثر بالفلسفة العربية الإسلامية (عن طبيعة الوحي)، بل هي تنتمي إلى تقليد لاهوتي مختلف عن اللاهوت ”المدرسي“ الذي شاع في القرن التاسع عشر والقائم على الكتابات المسيحية باللغة العربية في القرون الوسطى (من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر)، والتي أثارها الجدل مع الكاثوليك والبروتستانت.
- ويمكن إرجاع معظم هذه الفروق والاختلافات اللاهوتية إلى نوع المرجعية اللاهوتية لكل من هذه الاختلافات. وكمَثَل لهذا:
-
الجدل حول سُكنى الروح القدس في الإنسان المسيحي، حيث تُناقش تصريحات الأب متى المسكين في هذا الشأن والمؤسَّسة على كتابات آباء الكنيسة الأوائل وعظات القديس مقاريوس الكبير.
-
ومَثَل آخر الفروق حول تفسير ”الفداء“، حيث تقف الأفكار المخالفة لكتابات الأب متى المسكين عن الفداء في صف التقليد الغربي للأسقف أنسلم Anselm(*) اللاهوتي الإنجليزي في القرن الحادي عشر، والذي نجد صدىً له في الكتابات العربية في القرون الوسطى.
ثالثاً: الاتجاه المسكوني
هناك اتجاه مسكوني قوي جداً وواضح في حركة الإحياء الرهباني. هذا الاتجاه مؤسَّس على اللاهوت الرهباني منذ القرون الأولى(33). والرجوع المستمر لآباء الكنيسة في كتابات الأب متى المسكين هو نتيجة فهمه للتقليد باعتباره جزءاً من تراث الكنيسة الجامعة التي تحتوي الكنيسة القبطية أيضاً(34). فهذا التراث الآبائي هو بلا شك الأرضية المشتركة التي على أساسها يسعى الأب متى المسكين إلى توحيد المسيحيين من كافة الانتماءات المذهبية. فبدلاً من الدخول في مناقشات وجدل عنيف متوافقٍ مع الروح ”المدرسية“ غربية كانت أم شرقية، للدفاع عن العقائد القبطية الأرثوذكسية، أو محاولة الدفاع عن المسيحية بمفاهيم تكون مقبولة من المسلمين؛ يرجع الأب متى المسكين إلى آباء الكنيسة. وفي نداءاته المستمرة للوحدة المسيحية يحثُّ الكنائس أن تجحد استعلاءها الذاتي العقائدي، لتدخل إلى أعمق مستويات الروحانية، أَلاَ وهي المحبة والرحمة. هذه الرؤية قد تُعتبر أحياناً أنها نظرة عميقة عن الوحدة المسيحية لا تنطلق من الوحدة العقائدية، بل من وحدة في الحياة الروحية.
ولكن الإنسان هنا يحسُّ بأن الحركة المسكونية الحالية في العالم التي تقوم على الحوارات بين مختلف الجماعات البروتستانتية، والتي تشوبها ظلال حركة الإصلاح، أو الحوار الدائر مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؛ إنما يؤدِّي إلى نوع من ”المذهبية Confessionalism“ التي لا مكان لها في الوضع الرهباني. وبينما يُنظر إلى الكنيسة القبطية على أنها بمثابة دائرة مغلقة لا يمكن الدخول إليها إلاَّ من خلال المعمودية فقط؛ فإن المفهوم الغربي المسكوني عن الوحدة المسيحية هو عن عائلة كنائس مشتركة في مسئوليات متبادَلة، وتنخرط في عملية اعتراف كل كنيسة بالأخرى، وهذا مفهوم غريب على الكنيسة القبطية (ولا يُشايعه الأب متى المسكين).
|