**وُلد في 16/ 6/ 1946م**
**سيمَ راهبًا في 18/10/1973م**
**تنيَّح في 25/ 4/ 2024م**
في الخميس الموافق يوم الخامس والعشرين من شهر أبريل 2024م/ 27 برمودة 1740ش، وفي عشية يوم جمعة ختام الصوم الأربعيني المقدَّس؛ زَفَّ رهبان دير القدِّيس أنبا مقار أخاهم المحبوب الراهب القس ديمتري المقاري إلى فردوس النعيم، بعد حياةٍ رهبانيَّة مجيدة امتدَّت لأكثر من نصف قرن.
أبونا ديمتري هو من شيوخ الدير المُباركين([1])، ومن الرعيل الأول لأولاد الأب متى المسكين، والذين يرجع إليهم الفضل في وضع اللَّبنات الأُولى في إعادة إحياء وترميم هذا الدير.
كان أبونا ديمتري راهبًا فاضلًا، عاش مُتمسِّكًا بدعوته الرهبانيَّة إلى أقصى درجة. فكان لسان حاله دائمًا أمام أيِّ موقف لا يعجبه أو لا يخصُّه: ”أنا راهب“. فكانت هذه الجملة بمثابة قرار حياته طيلة سِنِيِّ رهبنته المُباركة التي عاش أمينًا لها إلى التمام.
كان يتميَّز بالجدِّيَّة والانضباط في حياته الشخصية، ربما إلى درجة الصرامة. فمن أجل محبته للمسيح لم يكن للعالم أو الجسد أو العاطفة سلطانٌ عليه. لذلك عاش في حرية مجد أولاد الله.
رأيناه راهبًا مُلتزمًا ومنتظمًا في عبادته وحضوره الكنيسة يوميًّا دون انقطاع. فهو أول الرهبان الذين يُبكِّرون في حضور تسبحة نصف الليل. فكان يسبق الكل في الحضور لدرجة أنَّ أحدهم قال له مُداعبًا: ”هل أنت تبات في الكنيسة“؟! ومكانه معروفٌ في أقصى ركن بالكنيسة. وطيلة حياته كان يذهب للكنيسة قبل جرس نصف الليل بنصف ساعة على الأقل، ويوقد الشموع أمام الأيقونات، ويجلس صامتًا في مكانه في انتظار أن يدقَّ جرس نصف الليل الذي كان يعتبره يصرخ: «هُوذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ» (مت 25: 6). لقد كان بالحقيقة رجل صلاة وتسبيح وسهر روحي داخلي.
أمَّا عن حياته الروحيَّة، التي كنا نُلاحظها، فقد كانت قراءة الإنجيل هي عمله الأول. وكان يقرأ بفهمٍ روحي عميق كُتُب الأب متى المسكين، ويحسُّ أنها تعكس له نور الإنجيل وتُعطيه قوَّة حياة. وكثيرًا ما كان ينفعل بفقرة أو فكرة معيَّنة أعجبته ولمست قلبه، فكان من فرحته يتَّصل بأحد الآباء ويُشرِكه معه في التأمل في هذه الفقرة وفي الفرح بما وجده فيها.
قطع أبونا ديمتري علاقته تمامًا بأُسرته، وكان يرفض أن يُقابلهم أو يتواصل معهم. وعندما كانوا يأتون إلى الدير، كان يوصي أحد الآباء باستقبالهم نيابةً عنه.
ومع التزامه الرهباني، رَفَضَ أن يقتني الأجهزة الحديثة كالكمبيوتر الذي ما كان يستعمله إلَّا في شغل مشروع الملاك ميخائيل. كما رَفَضَ أن يكون عنده تليفون أرضي داخلي، وبالطبع لم يكن عنده موبايل.
كان أبونا ديمتري راهبًا متعدِّد المواهب، وشُعلة من النشاط والخدمة والبذل في أعمالٍ كثيرة بعيدة عن تخصُّصه. فمع إنه كان مهندسًا في الأصل؛ إلَّا أنه نجح باجتياز جميع هذه الأعمال. وقد ائتمنه الأب متى المسكين وكلَّفه بكثير من الأعمال التأسيسيَّة في الدير.
كانت بداية خدمة الأب ديمتري في مطبخ الدير. وما أشقَّ العمل بالمطبخ في بداية السبعينيات، حيث كان العمل بعدَّة بوابير كيروسين أو شُعلة سولار. وكان يعمل وحده، ولم يكن معه حتى عامل واحد يُساعده في تأدية أعمال المطبخ المُتعدِّدة، سوى بعض المُبتدئين طالبي الرهبنة. وكان يؤدِّي كل هذه الأعمال وهو في منتهى الفرح والبذل والعطاء. وكان المطبخ مسؤولًا عن طعام الرهبان والعمال ومئات الضيوف يوميًّا. ومن الضروري أن يكون الطعام جاهزًا في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحًا، حتى يمكن توصيله بالعربة لمساكن العمال. وبالإضافة إلى المطبخ، كان أبونا ديمتري مسؤولًا عن الدياكونية بما فيها مائدة الرهبان والفرن والمخازن.
ثم في بداية الثمانينيات استعان به الأب متى المسكين في تأسيس المطبخ الجديد بكلِّ ما فيه من أدواتٍ حديثة تعمل بالكهرباء. وطوال سِنِيِّ عمل الأب ديمتري بالمطبخ كان يُستأمن على تشغيل الإخوة المُبتدئين طالبي الرهبنة، وكان حريصًا على تسليمهم الأصول الرهبانية من خلال العمل وحتى في تفاصيل الأكل الرهباني. وكانت الجملة التي اشتهر بها: ”إحنا ما استلمناش كده“.
وقد تخلَّل مدَّة عمله بالمطبخ عدَّةَ شهور (من أكتوبر 1977 – مايو 1978م)، استُدعِيَ فيها للعمل في ”مدرسة سان مارك“ بالإسكندرية. وكانت بداية القصة حين زار قداسة البابا شنودة الثالث الدير في أسبوع الآلام سنة 1977م، وطلب أن يقوم الأب متى المسكين بإرسال بعض من أبنائه الرهبان للعمل في إفريقيا، والبعض الآخر لاستلام وإدارة ”مدرسة سان مارك“ بالإسكندرية. ولأجل الطاعة، وكبادرة من حُسن النيَّة، وافق الأب متى المسكين على كلِّ ما طُلِبَ منه. وكان نصيب الأب ديمتري أولًا أن يذهب للكرازة في إفريقيا. وقد قَبِل بتغصُّبٍ أن يُرسَم قسًّا لأجل هذه المهمَّة([2])؛ ولكن أُرسِلَ راهبٌ غيره إلى إفريقيا، وصار من نصيب الأب ديمتري أن يذهب مع الراهب القس يوحنا المقاري، وثلاثة رهبان آخرين لاستلام ”مدرسة سان مارك“ بالإسكندرية. وهناك استطاع أن يُكوِّن علاقاتٍ جيِّدة مع الإدارة المدرسيَّة، وتعلَّق به الشباب وأحبوه جدًّا (فهو أصلًا كان خادم شباب بكنيسة مار جرجس باسبورتنج)، وعمل لهم ”النادي العلمي“، فكانوا يتسابقون على التواجُد فيه، وكان هو من خلاله يُعطيهم نصائحه وإرشاداته. وبعد عودته للدير استعاد الأب ديمتري عمله في مطبخ الدير لعدَّة سنوات.
وانتقل أبونا ديمتري بعد ذلك للعمل في زراعة أرض الدير بالبطيخ البعلي، هذا العمل الجديد جدًّا على الدير وقتها، والذي كان ضروريًّا في ذلك الحين للحفاظ على أرض الدير، والتي حاول الأعراب الاستيلاء عليها. فكان لا بد من زراعتها ولم يجد الأب متى المسكين أفضل من الأب ديمتري لتأسيس هذا العمل الجديد. وصار هو المُشرف على هذا المشروع الزراعي من بداية وضع البذرة الأولى حتى تسويقه خارج الدير. وهنا أيضًا ظهرت قدراته التأسيسيَّة والتنظيميَّة إلى أبعد حدٍّ.
ثم بعد ذلك تمَّ الاستعانة بالأب ديمتري في تأسيس وتنظيم حسابات الدير. وهنا أيضًا ظهرت دقته وقدراته التأسيسيَّة إلى أبعد حدٍّ، حتى إنَّ مدير مكتب المحاسبة الذي كان يُراجع هذه الحسابات قال له: ”أنا لا أُصدِّق أنك لم تدرس المُحاسبة، فأنت أكثر دقة من كثيرين من المُحاسبين الذين يعملون معي“.
وعندما قرَّر الأب متى المسكين سنة 2000م تأسيس مشروع الملاك ميخائيل لمعونة الأيتام والفقراء، كان أبونا ديمتري هو الراهب الذي اختاره الأب متى لإدارة هذا المشروع الضخم، وقد سلَّمه بنفسه كل تفاصيل هذه الخدمة. وهو بمساعدة أحد المهندسين في البرمجة الإلكترونيَّة، قام بوضع برنامج يحتوي على أدقِّ هذه التفاصيل عن طبيعة كل أسرة مُعالة، من حيث ظروفها وعمل الأب وسِنِّه، وعدد الأولاد ومراحلهم الدراسيَّة، وأي موارد مالية أخرى، وأيَّة مصاريف يتكبَّدونها مثل الإيجار أو أي أمراض مُزمنة يُعانون منها. ثم يُقرِّر مقدار المساعدة المُعطاة للأسرة بحيث يصل دخل العضو فيها إلى المستوى المقبول، ويُكرَّر البحث والاستقصاء مرةً أخرى كل 4 شهور، وذلك لتحديث أيِّة مستجدَّات جديدة تكون قد طرأت. هذا البرنامج، الذي وضع أساسه أبونا ديمتري، بحسب تعليمات الأب متى المسكين له، لا يزال العمل به بكلِّ دقَّة مدَّة 24 سنة بعد تأسيس هذه الخدمة.
كان أبونا ديمتري هو رجل إدارة ونظام من الدرجة الأولى، تصل إلى درجة الصرامة، فهو في عمله يطلب الكمال، ولا يسمح بأيِّ مجال للخطإ. لذلك كان يحاول بكلِّ ما أوتي من نعمة وذكاء أن يتلافى أيَّة أخطاء يمكن أن تحدث حتى في المستقبل. وقد سلَّم الآباء العاملين معه ومن بعده، في مشروع الملاك ميخائيل، هذه الدقَّة المتناهية.
وقد خدم الأب ديمتري مدَّة عدَّة سنوات في أرض الكيلو 70 بالساحل الشمالي، وقام خلالها بنساخة المخطوطات الأولى التي بخطِّ الأب متى المسكين، والخاصة بكلِّ كُتُب تفاسير الأناجيل، وبعض رسائل بولس الرسول، ورسالة بطرس الرسول الأولى، ورسالة يوحنا الرسول الأولى، وسِفْر أعمال الرُّسُل؛ كذلك جميع أجزاء تفسير سِفْر المزامير. وكانت نساخة الأب ديمتري لهذه المخطوطات دقيقة جدًّا وتتميَّز بالخطِّ الواضح الجميل وبالتنسيق البديع.
عاش أبونا ديمتري الرهبنة بكلِّ كيانه، لم يتطلَّع إلى ما هو خارج الدير، ولم يسعَ نحو كرامة، فقد تحاشى الظهور أو أن يكون تحت الأضواء. مات عن العالم بالكلِّيَّة. لم يكن يتكلَّم إلَّا في حدود، ومع هذا فكانت رؤياه فقط تُلهب القلوب، وتُبكِّت البعيد، وتُرسِل رسالة خاصة لا تُخطئ لكلِّ مَنْ يلتقيه.
الأب ديمتري قبل نياحته |